في العام الماضي، ودَّعت الشام... بأهلها وياسمينها وذوقياتها وثقافتها وحضارتها...
لا زلت إلى الآن أشمُّ رائحة مطار دمشق، وأسمع دويَّ محركات الطائرة، وأذكر لحظات الإقلاع الأولى بكلِّ تفاصليها... كانت اللحظات الأقسى على الإطلاق!! 
لكنني، وبعد ثوانٍ في الجو.. قلَّبت النظر في أولادي، استشعرتُ نعمةَ سلامتهم وسلامة أمِّهم وأبيهم، ثم عاهدتُ نفسي أن أعيشَ أفضل ما يمكن، وأقدِّم أقصى ما أستطيع، وأن لا أخوض غمار الحديث عن الحنين إلى الوطن.. لأنه حنين لا طائل منه، حرقٌ للأعصاب وإثقالٌ للقلب دونما جدوى، وأظنني حافظتُ على ذلك أمام الناس، ولطالما نكثتُ العهدَ بيني وبين نفسي..، فقد كانت قواي أضعف من حبس دمعة الاشتياق، حتى عرفتُ أن عِشقَ تلك الديار قد تخلل في القلب كنبضاته، وهو أسمى من تلك القيود العقلانية التي أردت سجنه فيها.

 

لكن.. ومع ذلك، رأيتُ الحنين إلى التُّراب أهون ألف مرَّة من الحنين إلى الأتراب، والشوق إلى بردى وقاسيون أيسَر من الشوق إلى الأهل والأصحاب والأحباب والجيران، ولكل منهم في النفس ذكرى فريدة، لا زلتُ أجدها غضَّة كيوم تركتهم كلما أغمضتُ جفنيَّ واستحضرتُ صورَهم..

مع الساعات الأولى لي في الجزائر حاولتُ أن أحبَّها، أن أتقبَّلها، وأظنُّ أنني استطعت.. بل وتقدَّمت في ذلك، فأهلها فريدون، واحترامهم لأهل الشام بارز، وعفويتهم وفطرتهم ملاحظة.. وفيهم كتبت مقالي: (إنها الجزائر).

 

شرعتُ من يومي الأول في التخطيط، بدأت أتلمَّس ذلك الإرث الفكريَّ الذي نقلته برأسي من الشام، وعزمتُ أن لا أبدأ من الصفر -مع أني أهَّلت لنفسي لقبول ذلك-، فمكثتُ أياماً أقلب الطَّرف في آفاق المستقبل بعد أن نسيت هذه المهارة -بحكم الغوص في تفاصيل الحياة الدمشقية في الآونة الأخيرة-.

وكعادة الله معي.. كانت دائماً النِّعَم استثنائية، والعناية استثنائية، وطبيعة الناس الذين جمعني الله بهم استثنائية..، أبى الله أن يقطعَ حبلَ فضلِه عليَّ، وكان أكثر ما رافقني في تلك الفترة هو الشُّعور بالعجز عن شكرِ عظيمِ المنَّة الإلهية التي كانت تحفُّني أنَّى اتجهت وأنَّى حَللت.

كنتُ أوقن أن الله أقامَني حيث أراد لحكمةٍ أرادها منِّي، ولخيرٍ أراده لي، ولطالما سألتُ نفسي بعد كل نعمة مهما دقَّت: ما المطلوب مني؟ أمجرَّد حمدٍ وشكر -وإن كان الله يرضى بهما-؟! فاجتهدتُ أن أتعرَّف على ذلك الخير لأقوم بمهمَّتي على أفضل وجه..

 

قد يهمك: (خمس في النعمة أعظم من النعمة)

 

نصحَني عدد ممَّن أثق بعقولهم ومحبتهم أن أبحثَ عن عملٍ وظيفيٍّ يَدرُّ لي دخلاً شهرياً ثابتاً، لكنِّي لم أستطع لهذه الفكرة هضماً، كنتُ أشفِق على إمكاناتي أن أسخِّرَها لمشروع الغير، وعلى طموحي أن أضَعَه في سلَّة الاستهلاك، أو أحاصرَه بسقفِ الهمِّ في طلب لقمة العيش..

وفعلاً، من الشهر الأوَّل لي بدأتُ بالعمل حرَّاً في المجال الإعلامي، فكفاني الله المؤونة، وفتح لي أفق العمل في هذا المجال. 


كانت السنة الأولى حافلة بالعمل، أنجزتُ فيها قرابة خمسين مشروع بين برنامج إذاعي وتلفزيوني إعداداً وتقديماً، وتحرير بحث، وتحقيق مخطوط، وإعداد كتاب، ناهيك عن حضور الملتقيات والمشاركة في المحاضرات، والقراءة بقدر لا بأس به، والشروع بإجازة القرآن، فأظن أن هذا العام كان حافلاً جداً، والإنجاز فيه كبير مقارنة مع الأعوام السابقة، ولكن كان يمكن أن يكون أفضل، وأنا أعمل على ذلك في عامي الثَّاني.

أتعَبت إخوتي في الشام بثقل بعض أعمالي ومتابعاتي العلميَّة، لكن الله آزرني بهم، وسخَّرني لهم، فله الحمد.

 

لعلِّي بدأتُ بالحديث عن العمل لأنه يأخذ جلَّ وقتي.. لكنَّه لا يشغلني عن أسرتي، فقد تعلمتُ في الغربة أنَّ الأسرة رأس مال، وأن الخلافات الطفيفة تنعدم بين الزوجين -والحمد لله الذي أعفاني من الخلافات العميقة-، وأظن ذلك راجعاً إلى طبيعة النَّظرة الواقعيَّة للحياة، وتجاوز الوقوف عند المفردات الصغيرة ترفُّعاً عنها، وتوفيراً لبعض النَّعرات التي لها أثر بالغ إذا ما قارنتَه بأثر تمريرها والتغاضي عنها.

تعلمتُ من الغربة أن لا أكترث كثيراً للظروف، فحاولتُ التعايش معها، وكنت اطمح لصناعة ظروف ملائمة تناسبني كبيئةٍ خصبة للإنجاز، وهذا ما لا أعرفُ إلى الآن هل قدرت عليه أو لا، ولعل الأيام القادمة تظهر لي صواب اتجاهي.

 

تعلمتُ أن الوقت كفيلٌ بالتغيير، وأنَّ التوفيق يستند إلى التقوى وليس إلى الإمكانات والقدرات والمهارات فقط.

عرفتُ أن المغترب لن يَخلُد في دار الغربة، وسيرجع يوماً إلى بلده، فهممتُ أن أرجع بثمرٍ طيِّب نافع أنفَع ما يمكن، يمتدُّ على أوسع نطاق ممكن، وأترك أعمق أثرٍ ممكن، وهذه هي الرسالة التي لا تغادر ذهني أبداً.

رأيتُ كثيراً ممن خلَّفتهم ورائي يراقبون أدائي -على انشغالاتهم-، وكنت أجتهد بستر نشاطي، لكني رأيتُ -وبعد مدارسةٍ- أن أحاول كلَّما أنجزت شيئاً أن أطلعهم عليه وأشدُّ أزرَهم به وأطَمئِنهم به عليَّ، مع الحذر أن يُفهَم ذلك منِّي تعالياً أو تباهياً بما تفضَّل الله به بمحض الإكرام.

 

نصحَني بعض الإخوة أن لا أثق بأحد ممن يحيطون بي في غربتي، وأن أبقي سرَّي في قلبي، لكن الله حفَّني بمعادن نظيفة، أبعد ما تكون عن التهمة، وقد عرفتُ ذلك بعد امتحانهم، فعشتُ بينهم -على قلتهم- كإخواني وأشقائي، أنعُمُ بنصحِهم وأفيد من ملاحظاتهم، فكانت لهم منزلتهم العالية التي لا تطغى على منزلةِ مَن غادرتُهم.

 

لا أنكر أني حاولتُ أن أبدأ من جديد، وأرسم الصورة التي طمحتُ بها زمناً لنفسي في مجتمعي الجديد، لكن أمر الله غالب، ودارت الأيام لتعلِّمني أن العملَ على الجوهر أهم من العمل على الصُّور، وأنَّ العفويَّة أليَق من التصنُّع حسبَ الطلب لتحصيل الأنموذج الذهني المعَدّ مسبقاً، فرجعتُ إلى سجيتي، واهتممت بإصلاح سريرتي.

 

كلَّما أردتُ الخوض في أمرٍ كنت أسأل عن الرؤوس فيه (مَن الأفضل والأقوى والأحسن... في هذا الميدان؟)، حاولت أن أتعرف على أهمِّ الشخصيات في المجالات التي أدخلها، والتفتُّ عن غيرهم دون أن أطوي بِشري عن أحد منهم، ورأيت أنَّه لم تعُد تهمُّني العلاقة مع الكَمِّ بقدر ما تهمُّني العلاقات مع النَّوع، فالإنسان حيث يضَع نفسه، لذلك اجتهدت أن أضع نفسي حيث يليق بي لأنتفع بذلك وأرتفع؛ دون أن أتَنفَّعَ من أحدٍ وأتَرفَّعَ على أحد.

 

لم أستطع في هذا العام أن أكوِّن صداقات أو تواصلات كثيرة مع إخوتي السوريين، لا أعرف لماذا، ربما لقلَّتهم في مكان سكني، وربَّما لأن ذلك لم يشكِّل أولوية لي، فالأولويَّة كانت عندي دائماً للصَّلاح، والصالح في ظاهره لي معه نسَب، وغيره لا تجمعني به الأنساب.

 

لم أفلح أن أضع برنامجاً أطمئنُّ به على أرحامي وأحبابي في الشام بشكل منظَّم، ولو كان ذلك بين الفينة والأخرى حاصلاً، لكني ما زلت أحاول تنظيم هذا الجانب.

 

لطالما أنعشتني ذكرى أنني بصحبة اللطيف الخبير: (اللهم أنت الصاحب في السفر)، فكنت أهنأ بصحبته، وأجدِّد علاقتي به كلَّ حين، وأشرِكه في جميع أمري، وأوقن أنه معي، لن يكلَني لأحدٍ غيره.

اللهم حفظَك للشام وأهله، وبرَّك بالجزائر وأهله، قِهِم اللهم شرَّ الأشرار، وكيد الفجَّار، وطوارق الليل والنهار، إلا طارقاً يطرق بخير.