بسم الله الرحمن الرحيم

 

يقول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة: -186]

 

معاشر السادة: كل عام وأنتم بخير.

 

مضى شهر رمضان الكريم بما فيه من نفحات وبركات وخَيرات، مضى عشرُه الأول وما فيه من رحمة، ثم عشرُه الثاني، وما فيه من مغفرة، ثم عشره الثالث وما فيه من عتق من النار، وها أنتم نستقبلون بعده عيدَكم، مكبِّرين الله على ما  هداكم ويسَّر لكم من الصوم، ووفَّقكم للزومه ودوام التمسك به، ولعل هذه الهداية أحد أسرار الصيام؛ إذ لا يكاد أحد من المسلمين يُخِلُّ بهذه العبادة إلا نادراً والله المنة جميعاً.

 

لقد أراد الله بكم خيراً كبيراً، ورصدكم لمنزلة عالية؛ إذ بلَّغكم رمضان، وبلَّغكم ليلة القدر، وهذه أيام العيد المباركة، فهنيئاً لمن جدَّ واجتهد بما حصَّل وارتفَد بشارةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم له: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، و(من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، و (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).

 

ولأجل هذه النِّعَم العظام والعطايا الجسام ذكَر الله تعالى في آيات الصيام الشُّكر نهايةً بقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، بعد أن ذَكَر التقوى بدايةً فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] فمن صحَّ له التقوى ابتداءً صحَّ منه الشكر انتهاء.

 

والشُّكر: صرف ما أنعمه المنعِم في طاعته وأن لا يعصيَ الإنسانُ ربَّه في نعمِه، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: لتكونوا في حالة يُرجى معها لزوم الطاعة واجتناب المعصية، ولذلك أعطانا الله مفاتيح الشكر وهدانا لأول خطواته ففرض زكاة الفطر عن كل صائم وعمن تلزم الصائمَ نفقتُه.

 

وبعد الحديث عن الصيام والشكر يلوح برقُ الحديث عن القرب والقدر، فتَتبع آياتِ الصيام آيةُ الوصال للكرام، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]

 

ومن وجوه التناسب بين الآيتين أنه لما كان الصائم مظنة أن يكون دعاؤه مجاباً، وصومه متقبلاً، وبعد ما عاين الصائم من نفحات ليلة القدر امتن الله سبحانه وتعالى عليه بقربه، مع علو شأنه -سبحانه- وجليل قدره.

 

لذلك أيها الأخ الكريم:

ربك الآن قريب منك، يجيب دعوتك إن دعوته، فلا تستنزل الغيث من غير مَصَبِّه، ولا تستروح ريحَ الرَّحمة من غير مَهَبِّه، واسأل الربَّ القريب أن يدركك بفضله العجيب، وأن يُذهب الغمَّة عن هذه الأمة، وأن يُصلح لكلِّ منا أمر دينه ودنياه.

لكن هذا القرب الربانيّ لا يكون إلا لمن سأل عن الله، واتمَر بأمر الله، وانتهى عما عنه نهى الله، عندها ينبئه الله سبحانه وتعالى عن قربه بنفسه الشريفة دون واسطة، إشعاراً بفرط قربه وحضوره مع كل سائل فيقول: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} حتى إنه لم يقل لرسوله صلى الله عليه وسلم مع عظيم قدره عنده: فقل إني قريب، بل تولى الإخبار بنفسه، فقال (إني)، ولو قال: قل لأوهم بُعداً، وليس المقام كذلك، فالذين يسألون عن الجبال وعن اليتامى وعن المحيض وعن الأهلة ونحوها يجابون بالواسطة، أما الذين يسألون عن الله فإن الله يرفع الوسائط بينه وبينهم ويكون قريباً منهم بغير مسافة.

 

فإذا كان هذا التلطف بالسائلين فما ظنكم بالسائرين المجتهدين العاملين المتقين، المشمِّرين لجبر خواطر المكسورين، خاصة في يوم عيدهم وفرحتهم المفترَضة؟!

وفي العيد عادات الكرام جرت          ببرِّ اليتامى وافتقاد الأرامل

 

أيها الإخوة:

هذه أيام العيد، ولا والله ما كانت الأزمنة، ولا الأمكنة يوماً ما جمالاً لأهلها، ولكن أهلَها هم الذين يُجَمِّلونها ويُكَمِّلونها، فالأيام متتابعة متشابِهة، لا يكادُ يَختلِف يوم منها عن يوم، لكن العيد يأتي فتراه يوماً ليس كالأيام، ترى نهاره أجمل، ومتعته أطول، وتبصر شمسَه أضوَأ، وتَجِدُ ليلَه أهنأ، وما اختلفتْ في الحقيقة الأيَّام في ذاتِها، ولكن اختلف نظَرُنا إليْها؛ إذ نسينا في العيد متاعِبَنا فاستَرَحْنا، وأبعدنا عنَّا آلامَنا فهنِئْنا، وابتسمْنا للنَّاس وللحياة، فابتسمتْ لنا الحياة والنَّاس، وقُلْنا لِمن نلقى أطيب القول: كلَّ عام وأنتم بخير، فقال لنا أطيب القول: كل عام وأنتم بخير.

 

أيها المسلم المستبشر بالعيد:

اعلم أن ستعدادك لتفريج كربةِ من حولَك من البؤساء والمعدَمِين هو بشارةُ ربك لتفريج كربتك وغمَّتك؛ لأن الصفة التي تعامل بها الخلق يعاملك بها الحق.

العيد يومٌ تلتقي فيه قوةُ الغنيِّ وضعفُ الفقير على محبةٍ ورحمةٍ وعدالةٍ من وحي السماء، عُنْوانُها الزكاةُ، والإحسانُ، والتَّوسعةُ، فالعيد يومُ الأطفالِ يفيض عليهم بالفرح والمرح، ويوم الفقراءِ يلقاهم باليسر والسعة، ويومُ الأرحامِ يجمعها على البر والصلة، ويومُ المسلمينَ يجمعهم على التسامح والتزاور، ويومُ الأصدقاءِ يجدد فيهم أواصرَ الحب ودواعي القرب، ويومُ النفوس الكريمة تتناسى أضغانها؛ فتجتمع بعد افتراق، وتتصافى بعد كدر، وتتاصفح بعد انقباض.

 

وأنَّ حكمةَ رمضان لا تكتمل في عيد الفطر إلا إذا شاركتُم الفُقَراءَ في الأَكْلِ والشُّرب، كما شاركْتُموهم في الجُوع والعطش، وكنتُم معهم في لذَّة الوجدان، كما كنتم معهم في لوعة الحرمان، فإذا فرَّحت أخاك بعطيتك، فرَّحك الله بعطية من عنده لا تحتسبها ولا ترتقبها، وثواب الآخرة أكبر.

 

نعم أيها الإخوة، من حق العيد أن نَبْهَج به ونفرح، ومن حقِّنا أن نتبادل به التهاني، ونطّرح الهموم، ونتهادى البشائر، وكذلك من حق إخوتنا المتضررين والمنكوبين أن يجتمع فرَحُنا مع الحزن لمحنتهم والعناية والاهتمام بشؤونهم، فالمجتمع السعيد الواعي هو ذلك الذي تسمو أخلاقه في العيد، إلى أرفع ذروة، ويمتد شعوره الإنساني إلى أبعد مدى، وذلك حين يبدو في العيد متماسكاً متعاوناً متراحماً، يذكر فيه أبناؤه مصائب إخوانهم في البلد الذين نزلت بهم البلايا والنكبات.

 

ولا يراد من ذلك تَذْراف الدموع، ولبس ثياب الحداد في العيد، ولا يراد منه أيضاً أن يعتكف الإنسان المبتلى بفقد حبيب أو قريب، ولا أن يمتنع عن الطعام، كما يفعل الصائم، وإنما يراد من ذلك أن تظهر أعيادُنا بمظهر الأمة الواعية، التي تلزم الاعتدال في سرَّائها وضرَّائها؛ فلا يَحُوْلُ احتفاؤها بالعيد دون الشعور بمصائبها التي يرزح تحتها فريقٌ من أبنائها.

لا تستكثروا تسلُّل الفرح إلى قلب المسلم، وإنا إذا ما وشّحنا العيد بوشاحٍ أسود حزين لن تُحَل عقدُنا، وعلينا بسنة نبينا الذي كان من عظمته يعطي كلَّ لحظة من الحياة حقَّها، فاستبشروا بالعيد تعبُّداً، واستكثروا من الخير، واسألوا الله المنة بالعطية الكاملة.

 أيها المسلمون: عيدكم مبارك إذا أردتم، سعيد إذا استعددتم، لا تظنوا أن الدعاء وحده يرد الاعتداء؛ إن مادة: دعا لا تنسخ مادة: عدا، وإنما ينسخها أعَدَّ واستعدَّ، فأعدوا للعيد فعلاً خيراً، واستعدوا لمواجهة حرام يعرَض أو بلاء يفرَض. تزدهر أعيادكم، وتظهر أمجادكم.

 

كل عام وأنتم بخير

والحمد لله رب العالمين