يمكنك سماع المقال بدل قراءته ☝️
التصوُّر شيء تميز به ابنُ آدمَ عن سائر المخلوقات، يتصورُ ويتوقع ويخطط.. ثم ينفّذ.
حين يتعلق ذلك بالحياة الزوجية فالصوابُ فيه غنيمةٌ كبرى، لكنَّ الخطأ فيه مكلفٌ جداً..
بداية.. لا يكاد يخفى اليوم على مطلع أو مهتم بشؤون الأسرة المسلمة البونُ الشاسع والهُوَّة السحيقة بين حقيقة الزواج بعد العرس وبين التصورات عنه قبل ذلك، بين الواقع والمتوقَّع، فحينَ تعرف أن 42 % من حالات الطلاق في بلد عربي تقعُ قبل الدخول، ويكتبُ بلد عربي آخرُ في إعلامه الرسمي أن "الطلاق في السنة الأولى" بات ظاهرةً في مجتمعه؛ وفي بلد عربي ثالث تكشف بعض الدراسات أن غالبية حالات الطـــلاق تقع في السنة الأولى من الزواج بنسبة 82%، ونسبة 50% من الطلاق - يعني الذي يقع بعد السنة الأولى - تتم قبل مرور ثلاث سنوات على الزواج!
في الحقيقة لا يمكن تفسير ذلك إلا بتوقعاتٍ خاطئة عن الحياة الزوجية في أذهان الشباب، وتأهيلٍ زواجيّ ناقصٍ أو خاطئ، شكّلَ فجوة كبيرة بين الواقع والمتوقع! ليكونَ الطلاق بوابةَ الخروج الأقرب!
الأسباب:
يرجع التوقع الخاطئ عن الحياة الزوجية إلى واحد من الأسباب الآتية:
- أولاً: المعلومة الناقصة أو المغلوطة عن الحياة الزوجية، أو عن الشريك.
- ثانياً: تضخيم دور الزوجين، فمع التغيير الواقع على الأسرة - بجهود المواثيق الأممية وتغيير القوانين الدولية - يجد كلُّ واحد منهما نفسَه مطالَباً بتغطية جوانبَ كثيرةٍ في الحياة، وهذا ما يُخرج العلاقةَ الزوجية عن سياقها ويكلف كلاً من الزوجين ما لا يطيق، بحيث تصير المرأة "سوبر ومان"، بعد زواجها من أحد "السوبر مانات".
- ثالثاً: عدم التعامل مع الدوافع والأولويات والأهداف الشخصية بوعي ووضوح واحترام، فلا بد أن يتعرف كل من المقبلَين على الزواج على دوافعه الشخصية التي دفعته إلى الزواج، ويحدد أهدافه وأولوياته بدقة، حتى يعرف هل هذا الذي اختاره مناسب لرؤيته المستقبلية لنفسه وأسرته أو لا.. ومهم كذلك أن يتعرف على أهداف الآخر وأولوياته، ويقدر استعداده لتلبيتها..
مثال للتوضيح: ممكن أن يكون من أولويات الفتاة: الأمومة، والشاب لا يريد الإنجاب أول خمس سنوات مثلاً! فتقع المشكلات.
ممكن يكون من ثوابت الشاب التعاون مع زوجته على الحياة مالياً، والزوجة غير مستعدة للعمل.. أو العكس.
ممكن أن تتصور الفتاة حياتها الزوجية مفعمة بالبرامج العبادية والنشاطات الخيرية والتطوعية وذريتها الطيبة روح أسرتها الرسالية... في حين أن الشاب المتقدم لها "خارج التغطية" بالمعنى الحرفي!
- رابعاً: التأثر بالصورة التي تعرضها مواقع التواصل الاجتماعي والأفلام والمسلسلات، والتي غالباً ما تُبرز أحد النقيضين من الواقع.
- خامساً: ارتفاع سقف التوقعات، فالتوقع أساس للتقييم، وأساس للفعل أو عدمه، وأساس لردة الفعل والانطباعات...، وكلما ارتفع التوقع انخفض التقييم، ومن هذه الزاوية يقول النبي صلى الله عليه وسلم لزيد الخير، وهو زيد الخيل بن مهلهل بن يزيد: «يا زيد، ما خبِّرتُ عن رجل شيئاً قط إلا رأيتُه دونَ ما خبِّرتُ عنه؛ غيرك!» [الروضُ الأنِف].
- سادساً: الترفُّع عن التأهيل الأسري، وهو مَكمَن الحَل، فالعِلم ينفي الوهم.
هكذا، يشكِّل الإنسان توقعاته من خلال عينات من المشاهدات والمسموعات والمقدِّمات، ثم يقارن الصورة الذهنية لديه بالواقع.
فليتوقع ما يشاء! أين المشكلة؟
قد يقول قائل: الإنسانُ ابن بيئته، يتعلمُ من تجربته، ومن حقِّ الشاب أن يتبنى القناعات التي تتشكَّل لديه في وسطه الاجتماعي، ومن حقه كذلك أن يجربَ ويتعلمَ من أخطائه؟ ثم مِن حقه كذلك أن يختارَ ما يهواه قلبُه، وأن يَحلُمَ ويتأملَ ويحاولَ تجسيد ذلك حقيقةً، فأين الخطأ في ذلك؟ ولماذا نصادر حقه في الأمل والحب؟
أقول: هناك أمل، وهناك طول أمل، هناك هدف، وهناك أمنية، مثال: كان توقُّع بعض الناس عن الكمبيوتر قديماً أنه جهاز لديه كلُّ المعلومات، يمكن أن يجيبَك عن أي سؤال يخطرُ ببالك! أنا يوم امتلكت أول جهاز كمبيوتر كانت هذه فكرتي عنه، وخاب ظني لما عرفته على حقيقته! طبعاً مع عظيم منفعته.
فلا بأس أن يتأمَّل الإنسان، لكن من الخطأ أن ينتظر من الشريك أن يرقى لتلك الصورة السامقةِ في الكمال الراسخةِ في المثالية! بل يقدّرُ بشريَّته ومحدوديَّته ويتوازنُ في الحكم عليه.
روي أن رجلاً جاء سيدَنا عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه يشكو خُلُقَ زوجته، فوقف على باب عمرَ رضي الله عنه ينتظر خروجَه، فسمعَ امرأة عمر تستطيل عليه بلسانها وتخاصمُه، وعمرُ ساكتٌ لا يرد عليها، فانصرف الرجل راجعاً وقال: إنْ كان هذا حال عمر -مع شدته وصلابته، وهو أميرُ المؤمنين- فكيف حالي؟
فخرج عمر رضي الله عنه، فرآه موليَّاً عن بابه، فناداه وقال: ما حاجتكَ يا رجل؟ فقال: يا أمير المؤمنين، جئتُ أشكو إليك سوءَ خُلُقِ امرأتي واستطالتَها عليَّ، فسمعتُ زوجتَك كذلك، فرجعتُ وقلت: إذا كان حالُ أمير المؤمنين مع زوجته، فكيف حالي؟
فقال عمر رضي الله عنه: يا أخي، إني احتملتُها لحقوق لها عليَّ: إنها طبّاخة لطعامي، خبّازة لخبزي، غسَّالة لثيابي، مُرضِعة لولدي، وليس ذلك كلُّه بواجبٍ عليها، ويسكنُ قلبي بها عن الحرام، فأنا احتمَلتُها لذلك.
فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، وكذلك زوجتي!!
قال عمر رضي الله عنه: فاحتمِلها يا أخي، فإنما هي مدةٌ يسيرة!
والحل؟!
ما الخطواتُ العمليةُ الإجرائيةُ العلاجيةُ، التي يمكن أن نستعين بها لردم الفراغ بين الواقع والتوقُّعات في الحياة الزوجية؟
أرى والله أعلم أن التأهيلَ الأسريَّ هو الحل..
التأهيل الأسري يخبر الشاب والفتاة بأن الزواج ليس حباً فقط! الحب شيء جميل، لكن البيوت لا تبنى على الحب وحدَه، الحب أضعفُ من أن يحملَ الأسرةَ وحدَه، والإنسان يستطيع العيش بغير حب مع زوج يحمل صفات أساسية طيبة، وليس العكس! فالناس يتعاشرون بأخلاقهم ومواقفهم وليس بمشاعرهم فقط!
التأهيل الأسري يخبر الشاب والفتاة أن الزواج ليس لقاحاً، بعض الشباب يظن فعلاً أن الزواج لقاح، يأخذ عينة لفايروس غير خطير (الزوجة في هذه الحالة)، فيعطيه المناعة لعينه فلا يعود ينظرُ إلى الحرام، ولقلبه فلا يعود يقعُ في مغامرات عاطفية، وفرجه فلا يكترثُ بباقي نساء العالم!
الزواج لا يعطي تلك المناعةَ والحصانةَ ضد باقي النساء أبداً.. والذي ينتظِرُ من الزواج أن يزوده بتلك المناعة فهو واهم، وسيكتشفُ وهمَه في الأيام الأولى بعد زواجه، عندما يرى نفسه بدأ ينظر لما لم يكن يلفِت نظره قبل الزواج، ويطمح للحصول على نماذج أخرى غير تلك التي اكتسبها من خلال الزواج.. ولذلك نرى أحياناً بعض المتزوجين يفعلُ ما يستحي من فعلِه العزاب!
الزواج لا يحصِّن الإنسان من الحرام، إنما يعينه في عملية التحصين، وفي الحديث: «فإنه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج» [البخاري ومسلم]، يقول: أغضُّ وأحصن، يعني أكثر إغضاضاً وتحصيناً، فأين نواة التحصين الأساسي الذي دعَمَها الزواج؟ إنها تقبع في العفاف والاستعفاف الذاتي، في العقيدة والدِّيانة والصِّيانة، في القيم والأخلاق، في الحذر من الحرام، وعدم الاقتراب من الطرق الموصلة إليه...
يقول الإمام الغزالي: (إن الزواج يساعد -الرجل والمرأة- على التحصُّن عن الشيطان، وكَسْرِ التوقان -يعني: ميل النفس الشديد- ودفع غوائل الشهوة، وغَضِّ البصر، وحِفظ الفَرْج) [إحياء علوم الدين]. إنه "يساعد" فقط! يُعِفُّ العفيف، ويُحصِن الحصين!
التأهيل الأسري يخبر الشاب والفتاة أن الزواج ليس مكملاً، فالزوجة لا تكمّل الزوج، والزوج لا يكملها، هذا يكون أحياناً بدرجات متفاوتة، لكن المشكلة عندما ينتظر الشاب فتاةَ تكمل ما فيه (ترفع من خسيسته)، وتنتظر الفتاة شاباً يكمل النقص الذي فيها (مادياً واجتماعياً وعاطفياً...)، نعم هناك حاجاتٌ ودوافعُ تحتَرَم، لكن الزواجَ ليس الدواءَ السّحريَّ لها دائماً!
التأهيل الأسري يخبر الشاب والفتاة أن الزواج ليس شراكةً مطلَقة، الزوجة زوجة، ليست شريكةً في النفقة، ليست شريكة بتفاصيل حياتك، وحساباتك، وعلاقتك بالله، وعلاقاتك بأهلك وأرحامك والناس...
الغربُ اليوم يحاولُ أن يروجَ لكلمةِ "شريك" ليَزُجَّ المرأة في مسؤولياتٍ لا تقدر عليها، ويزجَّ الرجلَ أيضاً في مواقفَ لا تليق!
الزوجة زوجة، ولها استقلاليتها الماديةُ والمعنويةُ، عندها مساحةٌ تشترك بها مع زوجها، ومساحةٌ أخرى خاصة لها، مع أخواتها وصديقاتها ومالها، ليس للزوج دخلٌ فيها البتة.
وكذلك الزوج زوج، ليس شريكاً يتقاسم مع الزوجة غنائم عملها، وإذا قعَد وخمَل طلَب منها أن تتحمَّل وتكونَ مرنة لأنها شريكتُه..
الزوجة ليست شريكة في الدراسة والعمل، والواجبات الاجتماعية وخدمة والد الزوج ووالدته رغماً عنها...
الشراكة مفهوم أوسَع من الزواج، والزواج يحفظ خصوصية الزوجين ولا ينتهكها!
التأهيل الأسري يخبر الشاب والفتاة أن الزواج مسؤولية، وأن الزواج التزام، وأن الزواج اختلاف، وأن الزواج تضحية يقدِّمها الزوجُ حيناً، وتقدمها الزوجةُ حيناً آخر، ويقدمها كلاهما حيناً ثالثاً....
كذلك يخبرهما بأن الزواج استقرار، والزواجَ مودةٌ ورحمةٌ، والزواج سكينة، والسَّكَن لا يكون إلا بعد حركةٍ واضطراب..
يدربهما على أن يكون المرجع الحاكم بينهما هو الشرع، وأن المسلم لا يكترث بالأعراف السائدة والعقلية البائدة إن خالفَت شريعة ربه، بل يبحثُ عن حلولِ مشكلاته في منهج الله الذي ما تركَ صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فالأسرة حاضرة بقوة في شريعتنا الإسلامية؛ في الكتاب وفي السنة، وهي خُمُس الشريعة ( يعني: 20% من الفقه الإسلامي)، وقد وضّح القرآن الكريم والسنة الشريفة والفقه الإسلامي معالمَ الزواج وضبَط مفاصِلَه وعالجَ مشكلاته، وقدَّم القرآنُ والسُّنة صوراً عديدةً عن واقعيَّة الزواج وخلاف الزوجين ومعاناتِهما معاً، وحرمانِهما معاً، وعبادتِهما معاً، وعصيانِهما معاً...
التأهيل الأسري يزرع في الشاب والفتاة بذورَ المرونة، والقابليةَ للتعامل مع الاختلاف بدلَ إضاعةِ الوقت في محاولة تغيير الآخر، فتغييرُ كلٍّ من الزوجين للآخر مهمةٌ شبه مستحيلة، ومن يتوقَّعُ التغييرَ السلس، وينتظرُ من الآخر التعاونَ في عملية التغيير - أو على الأقل: صِدق الوعود التي قطعها بذلك - فهو مغامِر مقامِر، فالأصل هو التعاونُ والاحتواءُ والتفهُّمُ والتفاهم، أما النديةُ وادِّعاء المساواة فقبر من قبور العلاقة الزوجية لا غير! {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران:36]
التأهيل الأسري يعلم الزوجين أن سعادتهما وعواطفهما وأهدافهما وأولوياتهما يجبُ أن تكون واضحةً ومحدَّدة ومحترَمة، وأن لا يدوروا ويلتفُّوا حولَها ويتعامَوا عنها.
بعد كل ذلك:
- أليس من الظلم الاجتماعي أن لا يتأهَّل الشباب والفتيات للزواج تأهيلاً صحيحاً ومتكاملاً؟ نفسياً وفكرياً وسلوكياً؟!
- أليس من الظلم - كذلك - أن يتأهّلوا تأهيلاً سلبياً، فيخطئون في اختياراتهم، ثم يخطئون في ممارساتهم، ثم يتسرَّعون في نقض عرى الزوجية؛ بعد تساهلهم في طُرق الاختيار وسُبل البحث والتنقيب عن زوج المستقبل، ثم يدفعون الثمن!
- لماذا يغيب تحمُّلُ المسؤولية والاستعدادُ للحوارِ والتضحيةِ والقابليةُ للتنازلِ وقبولِ الاختلاف عن أذهان الكثير من أبنائنا اليوم حين يتعلق الأمر بالزواج؟
- لماذا يتحوَّل الزواجُ في نفوسهم وأذهانهم إلى حفلاتِ عرسٍ فاخرة وحسب، وعلاقات حبٍّ وعشق فقط، وتتخيل الفتاةُ الزوجَ فارسَ الأحلام القادمَ من عالم الخيال حاملاً لعروسه كلَّ أمنيات حياتها! ويتصورُ الشابُّ الزوجةَ الأميرةَ النائمة التي تنتظر لمسةَ الحياة لتصحوَ بعدها وتتبعَ زوجها في خطواته كلِّها وتوافقَه في مراداتِه كلِّها!
- ربما لأن الشباب والفتياتِ اليوم يرغبون بتحقيق أحلامٍ وردية وسيناريوهات هوليودية في زواجهم بعيداً عن الواقع.
- ربما لأن الشباب والفتيات اليوم تمتلئ أذهانهم وتُشحَن عواطفُهم ومشاعرُهم بقِصص الحب والعشق والغرام يتلقَّونها من أبطال مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المسلسلات والأفلام والروايات الاجتماعية التي لا تُظهِر إلا الجانب المشرق - أو المظلم وحسب - من الزواج؛ ثم يذهبون نحو الزواج بحثاً عن هذا الذي مُلِئَت به عقولُهم وقلوبهم، وربما يجدوه.. وغالباً لا يجدوه؛ الأمرُ الذي يصيب حياتَهم الزوجية بمقتَل.
- ربما وربما وربما.. احتمالاتٌ كثيرة، وتوقعاتٌ عديدة تندرج كلُّها تحت مسمى : "التوقعات الخاطئة عن الحياة الزوجية".
ختاماً:
الزواج ليس حُباً فقط، ولا مسؤولية فقط
الزواج ليس سعادة بلا اختلاف، ولا شقاء بلا ائتلاف
الحياة الزوجية تضحية ممزوجة بالغنيمة، وسعادة مبنية على البذل والصبر والتحمُّل والعزيمة
لا يوجد زوج كامل ولا زوجة كاملة، مَنطِق الحياة ليس كذلك!
والكمال غير موجود على هذه الأرض ولا في هذه الحياة الدنيا، الكمالُ حاجةٌ أخروية استأثرَت بها الجِنان، أما هذه الحياةُ الأرضية فبعيدةٌ عنها كلَّ البعد في الإنسان، إلا ما اصطفى الله من الأنبياء والمرسلين.
هناك اختلافٌ لا بد من التعايش معه
وهناك غلط لا بد من التغاضي عنه
وهناك نقصٌ لا بد من قَبوله
المهم.. أن لا يكونَ في مقدمة الأهداف ولا في أعلى هرم الأولويات.