بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة الدكتور أحمد رباح، بعنوان:

(تغريب الأسرة المسلمة، وانعكاساته على الشباب فكرياً وسلوكياً)

ضمن أعمال الملتقى الدولي التاسع لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، شعبة ولاية برج بوعريريج - المكتب الولائي، بعنوان:

(الشباب الجزائري بين الثوابت الوطنية والتحولات العالمية)

المقام في دار الثقافة محمد بوضياف، برج بوعريريج، وذلك يومي الجمعة والسبت 14 - 15 شوال 1444ه / 5 - 6 ماي 2023م.

 

تغريب الأسرة المسلمة
وانعكاساته على الشباب فكرياً وسلوكياً

بسم الله فاتحِ العلمِ باسمه ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1]، جاعلِ العلمَ طريقاً إلى كرامته وإكرامه ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ [العلق: 3]، والحمد لله الذي جعل العقل ميزةً لابن آدم وأصلاً من أصول كرامته ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70]، ثم جعَل له العلم معراجاً يسلُك في شرف مسائله وأصوله وفروعه ومجالسة أهله سبيل الرفعة؛ حتى يُدرك به أشرف الأحساب، ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11]، وصراطاً يسلكه فيوصله إلى معرفة الله وخشيته ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]، و(كلما كانت المعرفة به أتمّ والعلم به أكمل؛ كانت الخشية له أعظم وأكثر)([1])، وقد كاد العلماء أن يكونوا أرباباً؛ فالملوك حكَّامٌ على الناس، والعلماء حكَّام على الملوك([2])، وكلُّ عزٍّ لم يؤكَّد بعلمٍ فإلى ذلٍّ ما يَصير([3]).

وصلى الله على سيدنا محمد معلِّم الناس الخير، المبعوث «معلِّماً ميسِّراً»([4])، المرسَل بكتاب الله والناطق بوحيه، ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ۝ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3، 4]، فبيّن ﷺ مُجمَلَ الكتاب، وأوضَح مُشكِله، وقيَّد مطلقَه، وخصَّص عمومه، وتدارَك ما لم يكن فيه مما أوكِلَ ذكرُه إليه، ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7].

 

أيها الإخوة الكرام:

السادةُ الضيوف الأكارم، والعلماء والدعاة أصحاب الفضيلة..

السادة القائمون على هذه الجمعية العريقة العامرة..

الأساتذة المشاركون، الحضور الكريم، الإخوة المنظمون..

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

إنه لشرفٌ لي أن أقابلَ هذه الوجوهَ النيرة، وأن أتحدثَ في هذا الجمع النخبوي الطيب المبارك، وأجالسَه على مائدة العلم وأهله، وإني إذ أقف اليوم بين أيديكم متكلماً أستحضر قول القائل قديماً أخاطب به نفسي:

حَمَامَةَ جَرْعَى حَوْمَةِ الْجَنْدَلِ اسْجَعِيْ     فَأَنْتِ بِمَرْأىً مِنْ سُعَادَ وَمَسْمَعِ([5])

فأسأل الله إخلاصاً، وتوفيقاً، وسداداً، ومعونة، وقبولاً.

 

أيها الإخوة الكرام:

إن موضوعَ الشبابِ موضوعٌ مطروق معالَج، كثرَت عنه الأحاديث، وازدحمت فيه الكتابات والبحوث والتصانيف، خصوصاً في الزمن الأخير، فلا أريدُ أن أعيدَ منه ما تكرَّر، ولا أناقش منه كلَّ ما تَقَرَّر؛ غير أني أرغب بإضاءة نقاط مهمة، تدور حول محور حديثي عن الشباب في: (تغريب الأسرة المسلمة، وانعكاساته على الشباب فكرياً وسلوكياً).

 

النقطة الأولى: أهمية مرحلة الشباب:

بداية: لا يكاد يخفى على عاقل في هذه الأمة أن سلامة الشباب وصلاحَهم في أمر دينهم ودنياهم هو السُّور القوي المتين العالي، الذي يُعتمَد عليه في بقاء هذه الأمة واستمرارها؛ وذلك لعدة مزايا:

- أولاً: لأن الشبابَ ربيعُ العمر وأوسطُه، ومرحلة الشباب هي أهم مراحل الحياة عامةً، وهي مجمَع الطاقة والقوة عند الإنسان؛ فالطفل ينظر بعينيه إلى هذه المرحلة، والكهل يلتفت إليها ويتحسر إن ضيَّعها، ويقول ما قال أبو العتاهية:

عَرِيْتُ من الشباب وكنتُ غَضَّاً
ألا ليتَ ‌الشبابَ ‌يعودُ يوماً

 

 

كما يَعرى من الورق القضيبُ
فأُخبِرَه بما فَعَلَ المشيبُ([6])

 

 

- ثانياً: لأن الشباب هم عامةُ جسد الأمة، وأقوى قواها البشرية، فنحن - في مجتمعاتنا العربية والمسلمة عموماً - أمَّة فتية، ويمثل الشباب جزءاً كبيراً من هذه الأمة، لذلك فإنَّ الشبابَ هم مرتَكزُ قوتنا، ومنتهى أملنا، وغاية خوفنا، هذا الجزء من جسد الأمة لو كان يمشي في الاتجاه الصحيح ويتطور وينمو ويبني ذاته، فإنه بذلك يحمل مسؤولية ذاته، ويحمل الأمة معه، لكن لو كان منشغلاً بالسفاسف، مؤمناً بأنه يعيش على هامش الحياة؛ فسيكون ثقلاً على المجتمع حاضراً ومستقبلاً.

- ثالثاً: لأن الله تعالى ورسولَه ﷺ أولى الشباب اهتماماً واضحاً، فقد اهتم القرآن الكريم بالشباب، وأفرد سوراً كاملة للشباب؛ فالسيدة مريم يوم حملت كانت في أول شبابها، وسيدنا يوسف يوم فُتن كان في أول شبابه، وسيدنا إبراهيم يوم حطَّم الأصنام كان فتى، كذلك ولده إسماعيل يوم عُرض عليه الذبح كان فتى، أصحاب الكهف كانوا فتية... والأمثلة كثيرة.

وأوصى رسول الله ﷺ -كذلك - بالشباب، فهم عامَّةُ جسد هذه الأمة الفتيَّة، وأسلمُها صدراً وأصدقُها عاطفة، وأجَدُّها قلباً، وقد كان ابن مسعود - رضي الله عنه - إذا رأى الشباب يطلبون العلم قال: (مرحباً بكم ينابيعَ الحكمةِ، ومصابيحَ الظُّلمة، خُلقَانَ الثياب، جُدُدَ القلوب، حُلُسَ البيوت [أي: مُلتزموها]، ريحانَ كلِّ قبيلة)([7]).

وكان أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - إذا رأى الشباب قال: (مرحباً بوصية رسول الله r، أوصانا رسول الله أن نوسِّعَ لكم في المجلس، وأن نفهِّمَكم الحديث، وإنكم خُلُوفُنا، وأهلُ الحديثِ بعدَنا)([8]).

 

النقطة الثانية: نماذج من الشباب حول الرسول :

وحفَّ اللهُ رسوله بمجموعة من الشباب، حملوا حديثه ونصروا رسالته، منهم:

- أبو هريرة، كان عمره يوم هاجر النبي ﷺ 19 سنة، أسلم عام خيبر 6ه وعمره 25 سنة.

- عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عُرِض على النبي ﷺ في أحُد فلم يجزه، وعُرِض يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه، وهو ممن بايع تحت الشجرة.

- جابر بن عبد الله رضي الله عنهما من المكثرين من رواية الحديث، كان عمره عند الهجرة ستة عشر عاماً.

- الأرقم بن أبي الأرقم: كان من السابقين الأولين إلى الإسلام، ‌أسلم قديماً - كان ثاني عشر-، ودخل النبي ﷺ داره أول الدعوة، كان عمره يوم أسلم 19 سنة.

- عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه، بايع بيعة الرضوان وعمره سبعة عشر عاماً.

- معاذ بن جبل رضي الله عنه، إمام العلماء، أحد السبعين الذين شهدوا العقبة من الأنصار، وكان من أفضل شباب الأنصار حِلْمًا وحياء وسخاء، وكان جميلًا وسيمًا، أسلم وله من العمر 18 سنة.

- عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، ولم يزد عمره حين توفي رسول الله ﷺ على الثالثة عشرة، ومع ذلك حفظ عن النبي ﷺ (1660) حديثاً، وكان ترتيبه الخامس من بين السبعة المكثرين لرواية الحديث الشريف.

قال السيوطي في ألفية الحديث([9]):

والمكثرون في رواية الأثرْ
وأنـسٌ، والبحــرُ، كالخـدريِّ

 

 

أبو هريرةَ، يليهِ ابنُ عمرْ
وجــابــرٌ، وزوجــةُ النبيِّ

 

 

كلهم - بالمناسبة - كانوا شباباً([10])، وكثير غيرهم من صحابة رسول الله r كسمرة بن جندب، ورافع بن خديج، وأسامة بن زيد، وزيد بن ثابت، والبراء بن عازب، والزبير بن العوام، وزيد بن الأرقم، وغيرهم كثير...

وفي التاريخ عموماً قامت دعوات الإصلاح وأعظم الأحداث على أيدي الشباب، وهم الذين حملوا الرسالات وحملوا القضايا العادلة؛ حتى الذين فجروا الثورة الجزائرية كانوا شباباً.

روى ابن أبي حاتم وابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ما بعث الله نبياً إلا شاباً، ولا أوتي ‌العلمَ ‌عالمٌ إلا وهو شاب)، وتلا هذه الآية: ﴿‌قَالُوا ‌سَمِعْنَا ‌فَتًى ‌يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ [الأنبياء: 60]([11]).

بعد هذا ليس غريباً أن نرى هذه الفئة من أمَّتنا مستهدفة بعمق؛ حتى بتنا نرى مشكلة في إيمان الشباب بربهم، وبأنفسهم، وبفاعليتهم وبجديتهم، نرى مشكلة في نظرة أسرهم ومجتمعهم لهم، نرى شغوراً في ثغورٍ تستصرخهم.

 

النقطة الثالثة: أعداء الأمة.. والشباب:

أيها السادة الكرام:

هذه صورة المراهق والشاب في قرآننا وسنَّتنا وشريعتنا، إذا ما قرنَّاها بصورة المراهق والشاب التي تصدِّرها بعض الأبحاث على أنه مراهقٌ مضطربٌ طائشٌ يعيش على هامش الحياة... فهذه الصورة لا تنطبق على أبنائنا، بل تنطبق على أبنائهم هم!

إن الناظر في عمل أعداء الأمة خلال القرن المنصرم يعي العمل الدؤوب الذي قاموا به لتفريغ هذه الأمة من روح شبابها، فعملوا على الشباب مذ كانوا أطفالاً؛ وعبثوا بهم من خلال البرامج التلفزيونية والألعاب الالكترونية وبرامج الأجهزة اللوحية التي تستهدف قيَمَهم وأخلاقَهم وعقائدَهم وفكرَهم وسلوكَهم...، إلى أن فتحوا لنا اليوم أبواباً لتقسيم الشباب بناء على متابعاتهم واهتماماتهم وانقسامهم حول التوافه الذي يعتقدون بأنهم "قدواتِهم"، نرى الشباب قد ابتلعوا طعمَها للأسف، في غياب أو انشغال أو استقالة والدية وتربوية ومجتمعية.

وحين نأتي لنفهم الشباب نجد أن الدراسات النفسية والاجتماعية الحديثة التي تتناول الشباب تقدِّمهم في صور لا تنسجم والصورة التي أرادهم الله عليها، فعلم النفس الحديث الذي نشأ نشأة غربية، وصدَّر دراساته وأبحاثه الميدانية التي تأثرت بشخصية الباحث في علم النفس، بنشأته وقيمه وثقافته ومشاهداته وطريقة محاكماته وتحليلاته، فمثلاً: عالم النفس الأمريكي "ستانلي هول" ألف كتابه عام 1917م يقول فيه عن مرحلة المراهقة: (المراهقة فترة عواصف وتوتر وشدة تكتنفها الأزمات النفسية، وتسودها المعاناة والإحباط والصراع والقلق والمشكلات وصعوبات التوافق).

وكما تأثرت هذه الدراسات النفسية والاجتماعية بشخصية الباحث فقد تأثرت - كذلك  - بعيِّنة الدراسة المأخوذة من مجتمعات لا تشبه مجتمعاتنا في قيمها ومرجعيتها وثقافتها وعاداتها وتقاليدها وأعرافها، ثم تُرجمَت هذه الدراسات والأبحاث والكتب بغير تمحيص؛ وإنك لترى كثيراً من الكتب المترجمة إلى العربية تمت صياغتها بروح غربية وعبارة ركيكة، يتلقفها من قلَّت خبرته وقَصَرَت نظرتُه من العاملين في هذا المجال، والمدربين الذين اقتحموا مجال الأسرة والتربية بغير خبرة ولا تأهيل، وضخموا بعض الجوانب لأسباب ترويجية أو تجارية، وأخافوا الناس وأغربوا لهم، وأرادوا أن يأتوا بالأعاجيب تسويقاً وتشويقاً بأنهم أتوا بما لم تأت به الأوائل!

هذا، وليس كل غريب منبوذ، ولا كل قريب مأخوذ.. فلا ننبذ كل الدراسات، ولكن لا نقبل منها إلا ما يتوافق مع الكتاب والسُّنة وقيمنا وثقافتنا ومرجعيتنا الدينية، ونحن غير معنيين بما خالفها من دراسات قامت على مجتمعات لا تشبهنا عقيدة وسلوكاً وثقافة وقيماً...، نعم.. ممكن أن نأخذ الأبحاث العلمية (الرياضية، الكيميائية، الطبية، الهندسية...) كما هي، لأنها علوم وأرقام وقوانين، أما العلوم الإنسانية فلا تؤخذ كما هي.

 

النقطة الرابعة: الأسرة.. حاضنة الشباب:

لما كانت الأسرةُ قوَّةَ الفرد وحِصنَ المجتمعِ؛ كان أعداءُ العربِ والمسلمين في حربهم علينا يوجِّهون سهامَهم - فيما يوجِّهون - إلى أسَرِنا؛ إذ يعرفون أن نقضَ الأسرةِ يَهدُّ كاهلَ المجتمع، وكما يذهب ابنُ خلدون إلى أن الدولَ ترقى وتنحط بقدرِ ما تكونُ فيها الأجيال قويةً أو ضعيفةً([12]).

فتارةً يوجِّه أعداءُ الأسرة سهامَهم إلى الفتاة لينفِّروها من الزواج، وليوغروا صدرَها بالعداء والتحريش بين الرجل والمرأة، ولينفخوا فيها بكل بوقٍ هدَّام لتُنازعَ الرجلَ أعمالَه وأفعالَه وأقوالَه ومسؤولياته، وتحتلُّ أماكنَه ومكانته، ولتجابهْ - بكلِّ قوتها - المجتمعَ الذكوريَّ الظالمَ - كما أوهموها -!

وتارة يتوجَّهون إلى الشاب ليُثنُوه عن تحمُّل مسؤولية الزواج والأسرة، وليضعوا في طريق زواجِه العراقيل ويُرجِفوا حولَه الأراجيف.

وتارةً يتوجَّهون إلى الفتيات والشباب معاً ليُضرموا فيهم نار الشهوات وحمأة الفتن؛ فملبوساتٌ فاضحة، وصورٌ ماجنة، وأفلامٌ ساقطة، وأغانٍ هابطة، وحرام متاح...؛ كلُّ ذلك لتحريف الفطرة واستهداف الأسرة بشكلٍ مباشرٍ وغيرِ مباشر.

هذا فضلاً عن اتفاقات دولية يعتني أعداء الأسرة والعفة والفضيلة -أولَ ما يعتنون - بها، لحلِّ كلِّ رابطٍ زوجي، ودعمِ كلِّ علاقةٍ خارجَ الأسرة والفطرة.

فاتفاقيةُ "سيداو" لمناهضة كافة أشكال التمييز ضد المرأة تدعو في المادةِ السادسةِ عشرَ منها لمفرداتٍ تجتمعُ مع بعضها لنقض عرى الزوجية: فالقوامةُ فيها مشتركة، ولا ولاية للأبِ على بناته، والإرثُ بالتساوي، ولا تُكَلِّفُ زوجاً بالنفقة على زوجته، ولا تتركُ له أمراً في سفَرها ولا حضَرها، ولا سكَنها معه في البيت أو في غيره إن شاءت!

ومؤتمر "بكّين" للمرأة والسكان يُشيع أنواع أسَرٍ جديدة؛ مُسَاكنةً أو شذوذاً أو علاقةً غير شرعية، ويدعو إلى الفوضى الجنسية بشكل أو بآخر، والطامة الكبرى أن بعضَ الدول العربية وافقت على تلك الاتفاقيات، وصارت اليوم تعقد للشواذ عقوداً تحتوي منكرَهم ضمن إطارِ القانون ليغدوَ ذلك - بالتدريج - جزءاً من الواقع المفروض وعرفاً في المجتمع المحيط.

كذلك ترى مؤتمر نيويورك لعام 2000 (يدعو صراحة لإلغاء مفهوم الأسرة القائم على ارتباط الرجل والمرأة بميثاق شرعي، إلى اعتباره متحققاً من خلال أيِّ ارتباط بين أيِّ رجل وامرأة، ولو بلا ميثاق ولا عقد شرعي، بل لا مانع أن تكون العلاقة شاذة، أي: بين رجل ورجل، وامرأة وامرأة؛ بحجة الحرية الجنسية، والمطالبة بالحقوق الفردية!)([13]).

واليوم يتطور الأمر لنتحدث عن ارتباطات تخرج عن الإطار الإنسي، فيمكن للمرأة أن تتزوج كلبها، والرجل يتزوج قطته، وترث منه كل ما ترك!

نتحدث عن هويات جنسية أخبرني بعض المتخصصين أنها بلغت 58 هوية جنسية بعد أن كانت ثلاثة: (ذكر، وأنثى، وخنثى مشوَّه).

 

النقطة الخامسة: تغريب الأسرة المسلمة:

يكاد لا يخفى على ناظر في حال الأمَّة العربية والإسلامية اليوم سعيُ الغرب إلى تغريب الأمة بشتى الوسائل، مرة: بالاستعمار العسكري، ومرة بالاستعمار الفكري والغزو الثقافي، ومرة بنشر المدارس التي تحمل فكر التغريبِ وسياساته في بلاد المسلمين، ومرة باستقطاب العقول تحت ستار "المنَح الدراسية" وتحضيرها لخدمتهم بعد رجوعها إلى أوطانها...، واستفحل هذا التغريب حتى صار يشكل خطراً على المسلمين في دينهم ودنياهم، وأشخاصهم وأسرهم ومجتمعاتهم، ووجب على عقلائهم مواجهته بشتى السبل؛ كما يحاول أعداء الأمة تغريبها بشتى السبل.

وقد كانت برامج التغريب - على اختلاف صنوفها - تقوم فيما مضى على قاعدتين أساسيتين:

الأولى: اتخاذ الأولياء والأصدقاء من المسلمين وتمكينهم ودعم نفوذهم، واستبعاد الخصوم الذين يعارضون مشاريعهم، ووضع العراقيل في طريقهم، وصد الناس عنهم بمختلف السبل.

القاعدة الثانية: التسلط على برامج التعليم وأجهزة الإعلام والثقافة عن طريق من نصَّبوه من أوليائهم وأصدقائهم، وتوجيه هذه البرامج بما يخدم أهدافهم ويدعم صداقتهم([14]).

ولكن هذه الأساليب اليوم تطورت لتغريب الأسرة المسلمة، ومن ذلك:

  1. اللعب بالقوانين التي تحتكم الأسرة إليها، لاستنطاقها بما يهواه الغرب من القيم والإجراءات التي تخالف الفطرة والأعراف والشرائع، وذلك من خلال إقامة المؤتمرات، وعقد الاتفاقيات، وسنِّ القوانين التي تغير مسار الأسرة وتحرفه بقوة القانون - وقد ذكرنا على سبيل المثال تمكين الشواذ -.

  2. توظيف وسائل الإعلام بمختلف أنواعها لغزو الأسرة ودكّ قيمها الدينية والتربوية والاجتماعية.

  3. التأليف والتصنيف في موضوع الأسرة، وإجراء الأبحاث والدراسات التي تُمْلاُ بالتوصيات والمقترحات والحلول المدمِّرة للأسرة، وكذلك بالإحصاءات التي تخيف الشباب من الزواج والإنجاب وتصرفهم عنه.

  4. إقامة المؤسسات والمشاريع والمنظمات والهيئات التي تسهر على تمرير رؤاهم وتنفيذ منطلقاتهم وتوصياتهم.

  5. استكتاب أقلام واستئجار عقول عربية أو مسلمة عموماً لتقوم بهذه المهمة.

 

النقطة السادسة: تأثُّر الشباب فكرياً وسلوكياً:

هذا النشاط في الدعوة إلى التغريب وابتكار أساليب ووسائل جديدة له مستمر إلى يومنا هذا، ولكن بقوالب أشد قسوة وأعظم أثراً وأكثر فتكاً؛ إذ صارت ترعاه أروقة الأمم المتحدة، وتسَخَّرُ له آلةٌ رهيبة من المال والإعلام والبشر، تعمل على سحَب الأبناء (أطفالاً، ومراهقين، وشباباً) من تحت مظلة الأسرة التي مزقتها هذه المنظومات الفكرية والثقافية المستوردة العفنة، وعبثت بأدوار أفرادها، وألغت وصاية الأبوين، وقوامة الزوج، وصدّرت معادلات تربوية تجريبية جعلت الأبناء أقلّ تماسكاً ومسؤولية، وأكثر هشاشة نفسية ومجتمعية، وأكثر قابلية للاختراق.

وافقَ ذلك في العصر الحالي معطيات أخرى فكريَّة وسياسيَّة استجدَّت في البلاد العربية والإسلامية، جعلتنا نواجه بين جيل الشباب المسلم ثلاث ردَّات فعلٍ نحو الدِّين وتعاليمه وقيَمه ومنظومته الفكرية والتشريعية، والتي لم تعُد تخفى على أحد:

  1. التمسُّك الأعمى بالتفاصيل، والتقديس الـمَقيت للجماعة، والتساهل في التكفير والتفسيق([15]) والتبديع، والإغراق في الجمود باسم الأصولية، والوهم بإعادة الدين لما بدأ به بإسقاط أحداثٍ تاريخية ودينية على واقعنا المعاصر بغضِّ النظر تماماً عن مسيرة التطوُّر الديني التي قطعَتها الأحكام الفرعيَّة حين كانت تتغيَّر بتغيُّر الأمكنة والأحيان، وتتجدَّد بتجدُّد الأزمان، مع تجاهل اختلاف الناس والقوى والحياة.

  2. التفلُّت الكامل من الدِّين، واللجوء إلى الإلحاد الذي يوافق أهواء النفس ويرفع عنها القيود جملةً، وقد يكون - أحياناً - من دون الإعلان عن هذا الإلحاد ومناصرتِه وإظهارِ العداء للدين...؛ فلكلٍّ حساباتُه وقدراتُه وطبيعته في إظهار ذلك ومواجهة المحيط المسلم.

  3. التجرؤ على الرموز العلمية والعلوم الشرعية والتراث الفكري باسم التجديد: وذلك بقلب المفاهيم، وزحزحة الثوابت، وتحطيم أسس العلوم الشرعية بالنيل من رموزها وروادها ومَراجعها وأعمدة رجالها - القدامى والمعاصرين -، كل ذلك باسم ضرورة التجديد، ليَسيرَ أهل هذا الفكر خلف كل ناعق سطحي لا يعرف أصول الصَّنعة العلمية الشرعية، فيسوق هُراءَ جهلِه تحت راية التجديد نفسِها بعد أن شوَّه معالمها.

وهذا ما يدعو عقلاء الأمة من باحثين ودعاة إلى إعداد العدة لمواجهة كلٍّ من هذه التيارات الثلاثة بالطريقة والمنهجية المناسبة، ومواجهة أعداء الدين الذين يستخدمون التيارات الثلاثة وقوداً لعدائهم التاريخي للإسلام وأهلِه وبلاده. 

 

ختاماً:

أقول لنفسي، ولكل شاب مسلم: أمتك اليوم تحتاجك، فلا تأخذك أهواؤك وشهواتك بعيداً عن ثغرك، ولا تُعطِ أذن قلبك لمن لا يألُ جهداً في تحطيمك وحرقك بطاقاتك ووقودك، ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ ‌تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 27].

الذي صنعك هو الأعلم بما يصلحك، وهو الأخبر بما يناسبك وما لا يناسبك، ﴿‌أَلَا ‌يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14].

ومجتمعك هذا الذي تنتقده له عليك حق أن تشارك في نفعه ورفعه، ووطنك هذا الذي تلتفت إلى غيره سُفكت فيه الدماء لتوصلَ إليك المشعل، فأدِّ واجبك وفعِّل دورك وطوِّر مهاراتك وتعلَّم واعمل لتؤدي لهذه الأمانة حقَّها، وقد أعطاك تعالى ميزات في سن الشباب، وطاقات وقدرات، وضرب لك أمثلة في القرآن الكريم، وجسَّد أخرى في صحب الرسول الكريم، فبهداهم اقتده، فإن التفتَّ يَمنةً أو يسرة ستجد من يقترح ويفترض وينتقد ويجرّب فيك...، ثم ستدفع الثمن وحيداً، ولا شيء أضمن ولا آمن من منهج خالقك.

*     *     *

وكتبه: د. أحمد رباح

الجزائر - برج بوعريريج

05/05/2023م

للمزيد: 

- [ الكلمة مصورة ]

ملخص جريدة البصائر

 


([1]) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير الدمشقي، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية (1420هـ - 1999م)، [6/544].

([2])  من قول أبي الأسود الدؤلي، ينظر: جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي - السعودية، الطبعة الأولى، (1414هـ - 1994م)، [1/255].

([3])  من قول الأحنف بن قيس، ينظر: المرجع السابق نفسه، [1/256].

([4])  أخرجه مسلم في صحيحه "المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة الأولى، د.ت، كتاب الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقاً إلا بالنية، رقم (1478).

([5]) والمعنى: أيتها الحمامة التي تطير في هذا المكان الرملي الذي تكسو الحجارة معظمه، فلا يُنبِت شيئاً، غنِّي وأصدحي، فأنت بحيث تراك محبوبتي سعاد وتسمع صوتك.

([6]) الحماسة الصغرى لأبي تمام (ص:278)، والبيان والتبيين للجاحظ، [3/ 56].

([7]) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله [123/1]، والبيهقي في شُعَب الإيمان [2/271].

([8]) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله [578/1]، والبيهقي في شُعَب الإيمان [2/275].

([9]) ألفية السيوطي في علم الحديث، (ص: 108).

([10]) أبو هريرة: كان عمره 25 سنة يوم أسلم، ابن عمر: كان عمره 15 سنة يوم الخندق، أنس بن مالك: كان عمره 20 سنة يوم توفي النبي، وابن عباس: كان عمره 13 سنة يوم توفي النبي، أبو سعيد الخدري: كان عمره 13 سنة يوم أحد، وجابر: 16 سنة يوم الهجرة، والسيدة عائشة: 18 سنة يوم وفاة النبي r. ينظر: [معرفة الصحابة لأبي نعيم، وأسد الغابة لابن الأثير، وسير أعلام النبلاء للذهبي].

([11]) تفسير ابن أبي حاتم [8/2455]،وتفسير ابن كثير [5/349].

([12]) بيّن ذلك في تاريخ ابن خلدون [1/214] عندما وضّح عمر الدولة أنه (ثلاثة أجيال فيها يكون هرم الدّولة وتخلّفها ويكون انقراض الحسب في الجيل الرّابع).

([13]) دليل الإرشاد الأسري - الإرشاد بالمقابلة، إعداد نخبة من المتخصصين، إشراف د.عبد الله السدحان، مؤسسة سليمان الراجحي، (1426ه - 2005م)، (ص:13).

([14]) أزمة العصر، الدكتور محمد محمد حسين، دار عكاظ للطباعة والنشر، السعودية، د.طـ، (ص:105).

([15]) فسَّقَهُ تفسيقاً: نسَبه إلى الفسق. يُنظر: تاج العروس من جواهر القاموس، للزبيدي، مطبعة الكويت، الطبعة الثانية، د.ت، [26/305].