عجلة الحياة.. لا تدور دوماً كما نشتهي، وهذا ما يدعونا لنصارعَها حتى نبقى في عِداد الأحياء، متمسكين بأذيال البقاء الكريم؛ فنحن نعرف تماماً أنه لا توجد عصاً سحرية تحقق لنا الأماني والآمال.. إنما هو محرِّك الجد والاجتهاد.. الذي يعمل على وقود الأمل..

الحياة لن تتغير أبداً، لن تلبس وجهاً غير الذي نعرفه، ذاك الوجه المتقلب المتغيِّر المتلوِّن..، وكفى بالمرء خطأ أن يظن دوام الحال على الحال، فهذا من المحال..

ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابضٍ

 

على الماء خانته فروج الأصابع

 

أما والحال هذه- فلنعمل على تغيير الذات، تغيير النظرة والفكرة.. زرع بذور الأمل في أعماق النفس، فهذا أبسط وأيسر وأسرع بكثير.. من تغيير المحيط كلِّه أو بعضِه.

حقيقة.. نحن نتخيل الخير بطريقة ما، لكن خلاف ذلك لا يعني بالضرورة أنه شر!!

وكذلك.. نتوقع الشرَّ بطريقة ما، فإن وقع كما توقعنا فليس بالضرورة أن يكون بالسوء الذي تصوَّرنا!! فقد قضى قاضي السماء حُكماً جاء فيه: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

 

إننا -كبشر- أحوج ما نكون للأمل، وذلك لأمور ثلاثة..

 

أولها- لأننا أحياء:

نعم، لأننا أحياء، وما دمنا أحياء فالأمل غيرُ منقطع..

 

 

وقد قيل: (لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس).

وقيل أيضاً: (اليأس دَرَكُ القبر، والأمل دَرَج الحياة).

 

ألا ترى معي أنَّك مررتَ بحالات ومواقف وظروف ما ظننتَ العيش بعدها، أو فلنقل: ما ظنتَ العيش على هذه الصورة بعدها.. ألا ترى بعد كل ما حصل أنك جديرٌ بإتمام هذه الطريق.. جدير بالاستمرار.. بالبقاء لمدة أطول..؟!

تلك التحدِّيات.. تلك العقبات.. تلك الامتحانات.. مرَّت بعد أن مارت.. وانقضت بعد أن أقضَّت.. وزالَت بعد أن زارَت..

إنها لم توقعكَ أرضاً.. ولئن أوقعَتْك.. فإنَّك نهضتَ من جديد.. أو فلنقل: ما زلت تحاول النهوض..

(قد يهمك: ابتسم بين الركام)

 

هل تعلم: هناك عشرات بل مئات وربما آلاف يموتون الآن.. بينما تقرأ بدورك هذه السطور! وأنت مازلتَ حياً بفضل الله.. فانفض عن كاهلك غبار الاكتئاب المقيت.. وقم، وابدأ من جديد.. فالحياة تنتظر أحياءَها وتلفظ أمواتها.

 

كان د.فكتور فرانكل ابناً لعائلة يهودية في فيينا، وجدَ نفسه معتقلاً في معسكرات الاعتقال النازية في أثناء أحداث المحرقة، ليعيش فيها ظروفاً شديدة القسوة، كان يحاول البحث عن شعاع الأمل.. حتى استطاع إيجاد الجانب المضيء في زحمةِ تلاطمِ أمواجِ المرار، كان حاله مزرياً فعلاً.. لكنه استطاع أن يستخرج منه معنىً قام بنشره فيما بعد حيث حلَّ وحيث ارتحل..، فقد خرج من السجن ليطوِّر نظريته ويؤسس لعلاج نفسي يسمى "العلاج بالمعنى"، وأصبح به واحداً من أكثر الملهِمين لعلماء النفس حول العالم..

كانت تجاربه في الحياة تتلخص في معنى واحد، وهو:

(كونك مازلت حياً الى يوم آخر، فهذا يعني أن هناك أمل)

 

الأمل طاقة يودعها الله في قلوب البشر تدفعهم لإعمار الكون وأداء المهمة المطلوبة: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].

حتى وإن رأينا انعدام أسباب النجاح.. وأسباب الخلاص.. وأسباب الحياة..

حتى وإن عمَّ الدَّمار هذه المعمورة! وكادَت أسباب الحياة أن تنعدم حولك.. لا بأس، تمسك بحظك من الأمل وحسب.. ففي الحديث: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة؛ فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل» [رواه أحمد].

 

 

الأمل بحياة الفسيلة وقودُ من يزرعها، والأمل بالانتصار في المعركة وقود من يخوضُها، والأمل بنجاح العمل الجراحي وقود من يخضع له، والأمل بالربح وقُود التاجر في المخاطَرة، والأمل بالنجاح المدرسي وقود الطالب، والأمَل بالفرَج وقودُ صبر المبتلَى وسعيِه في سبل الخلاص، والأمل بالشفاء وقود التحمُّل لمرارة الدواء... يكفي أن ينقطع الأمل لينقطع كلُّ ذلك! لتموتَ المبادرة على هذه الأرض!

لأجل هذا كان أول أسباب البحث عن الأمل: أننا ما زلنا أحياء..

 

السبب الثاني- لأن الطرق لم تغلَق بعد بشكل كامل:

لا يزال هناك طريق -على الأقل- مفتوحاً للطالبين.. حتى وإن كنَّا نظن أنَّ الطرُق أُغلِقت بشكلٍ كامل، واليأس أحاط بنا من كل ناحية..

نعم.. كثيراً ما يحيط اليأس بالإنسان من كل جانب، حتى تستحكم حلقاته ويشتد خِناقه، وهذا أمر طبيعي متوقَّع ما دام العبد يجول في ثنايا هذه الحياة الدنيا، لكن طريقاً واحداً ليس لليأس فيه معراج، ألا وهو الطريق نحو الأعلى، النظر إلى السماء، دفع الهموم ورفعها إلى السيد المالك الذي أذِن لها بالنزول أولاً، هذا الطريق كان يسلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نوازله، فكان عليه الصلاة والسلام إذا حزَبَه أمر صلَّى -كما في سنن أبي داود-، وقد عدَّ الفغلة عن هذا الطريق من الكبائر، فقد سئل -كما عند ابن أبي حاتم والبزار-: ما الكبائر؟ فقال: «الشرك بالله، والإياس من روح الله، والأمن من مكر الله».

ذلك لأنَّ صلة المسلم بربه تجعله دائم الفكرة في هذا السبيل، حتى يعتادَ طرقَ أبوابه والتذللَ بأعتابه والراحة برحابه.

 

 فعلاً.. لا تزال هناك فسحة من الأمل، فالطرق لم تغلَق كلُّها بعد!! فقُم وتابع المسير.. قم وستجدني إلى جانبك في ركب أولئك الذين يبحثون عن بصيص الأمل، عن ذلك الوميض.. الذي يبرق سريعاً عند نهاية هذا النفق المظلم.. لأنني مثلك.. أعاني ما تعاني، آلَم كما تألم.. أضيق مما تضيق منه..

 

 

أنا أحتاج -كما تحتاج- لوقود من الأمل يكفيني في مضمار هذه الحياة.. يضخُّ الطاقة في عروقي ويحييها بين جنباتي لأتزود من العمل الصالح ما يكفيني على هذا الطريق الشائك، فلولا الأمل لامتنع الإنسان عن مواصلة الحياة ومجابهة مصائبها وشدائدها، ولولاه لسيطر اليأس على قلبه، وأصبح يحرص على الموت أكثر من حرصه على الحياة.

الحياة على هذه الأرض عامرة بالعقبات والمكروهات، وإن الشعور بثقل هذه السلاسل التي تجذب العبد حال البلاء نحو الأسفل يدعوه للارتماء أرضاً.. للغفلة عن تلك الطرق التي تسلك بالعبد سبيل الخلاص من همومه وغمومه، متأسياً مقتدياً بنبيِّه، مهتدياً بنوره في ظلام عيشه.

 

السبب الثالث: لأن الخروج من وادي اليأس واجب شرعي:

قد تعتاد النفس التعايش مع اليأس، قد تميل للوحدة، تعمل على استجلاب الألم وسَوق ذكريات المحَن، تعكف على ترسيخ زوايا اليأس في النفس وتبريرها والتلذذ بآلامها بدلَ أن تعين صاحبها على الخروج من حالته! عندها يكون بذلَ الوسع للخروج من حالة اليأس واجبٌ شرعي.. فإن ترَك الإنسانُ قيادَ نفسه وحررها طليقةً في هذا الحال فقد ارتكب ما حرَّم الله عليه، بل عدّ العلماء القنوط من رحمة الله أو من تغيير الحال أو اليأس من زوال الملمَّات من الكبائر..

قال ابن حجر المكي: (عَدُّ ذلك كبيرةً هو ما أطبقوا عليه؛ لما ورد فيه من الوعيد الشَّديد، كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87]، وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56]).

 

بلا أدنى شك.. في حياة كلٍّ منا جانبٌ مضيء وهامشٌ جِدُّ مشرق، فعليه أن يدير فيه النظر، ويردِّد فيه الفِكَر، ويتأمَّله مليَّاً، ولا يدَع للنفس والشيطان توجيهَ مركبةِ حياته.. فكلٌّ منا هو المسؤول عن نفسه، وعليه أن ينقذها قبل أن يأتي يوم يقول فيه الشيطان: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22]

ثم إن السَّعادة هي هدف هذا الدِّين، فما جاءت التشريعات السماوية إلا لننال من خلال تطبيقها سعادة الدنيا والآخرة..

ومن هنا.. كان عليه الصلاة والسلام يحبُّ أن يبثَّ روح الأمل فيمن حوله، ويكره التشاؤم واليأس..

كان يزور مريضاً فيقول له: «لا بأس طهور إن شاء الله» [البخاري]، ينفِّس له في الأجل ويزرع فيه بذور الأمل..

كان يقول: «لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح؛ الكلمة الحسنة والكلمة الطيبة» [متفق عليه].

 

ختاماً..

هناك أناس تحدثهم عن الألم.. فيحدثوك عن الأمل.. هؤلاء هم من نحتاجهم بالقرب منا دائماً.. حاول أن تبحث عنهم، فإن وجدتهم فاحرص عليهم..

دمتم على أمل..