بإمكانك استماع المقال ( هنا )
من أجمل البشارات القرآنية التي تلقاها النبي صلى الله عليه وسلم هي قوله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾ [الفتح: 1 - 3].
أن يغفر الله لك ما تقدّم من ذنبك فهذا شيء عظيم! لكنه ممكن، وقد جمع بعض إخوتي أكثر من عشرين عملاً يكفّر الله به ما مضى من الذنوب..
لكن أن يغفر الله لك ما "تأخر" من ذنبك.. أن يعطيك بطاقة أمان أن افعل ما شئتَ فقد غفرتُ لك ما ستفعل مقدَّماً.. فهذا لا أعرف في هذه الأمة أحداً ناله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير عثمان بن عفان رضي الله عنه، فهذا مما تفرَّد به سيدنا عثمان رضي الله عنه عنْ هذهِ الأمةِ كما تفرّد عن بني آدم كلهم بزواجه من ابنتي نبيٍّ، فعن الحسن قال: (إنما سمِّي عثمان ذا النورين لأنا لا نعلم أحداً أغلق بابه على ابنتي نبيٍّ غيرَه) [سير أعلام النبلاء].
عثمانُ جيشِ العسرة!
تفرَّد سيدنا عثمانُ عنْ هذهِ الأمةِ بنيله شهادة العفو من النبي صلى الله عليه وسلم يوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار ذهبي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجهّز جيش العسرة إلى تبوك لمواجهة أعتى قوة في الأرض يومها؛ الروم.. الذين قرروا أن يقضوا على الرسالة بعد أن باتت تهدد ملكهم.
جمع النبي صلى الله عليه وسلم كلّ من استطاع أن يجمعه من الناس في جيش يواجه به الروم، وبدأ بتجهيزهم، وقلّ المال، وبدأ الناس يفدون على النبي صلى الله عليه وسلم للقتال، والنبي لا يجد ما يحملهم عليه، كان يقول لهم: ﴿لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ فتراهم: ﴿تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة: 92].
في هذه الأثناء جاء عثمان بن عفان رضي الله عنه بثلاثمئة بعير جهّزها للغزو، وبعشرة آلاف دينار ذهبي، فنثرها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فصار النبي صلى الله عليه وسلم يقلّبها في حجره ويقول: «ما ضرَّ عثمانَ ما عملَ بعدَ اليومِ مرتين» [الترمذي].
وفي رواية كان يقول لعثمان: «غفر الله لك ما قدمتَ وما أخرت، وما أسررتَ وما أعلنت، وما كان منك وما هو كائن إلى يوم القيامة» [ابن أبى شيبة].
تقول عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعاً يديه حتى يبدو ضبعيه إلا لعثمان بن عفان، إذا دعا له) [أحمد في فضائل الصحابة].
يقول أبو سعيد الخدري: رأيت النبي رافعاً يديه يدعو لعثمان بن عفان، فقال: «يا رب، عثمان بن عفان؛ رضيت عنه فارض عنه» فما زال يدعو رافعاً يديه حتى طلع الفجر [ابن عساكر].
كل ذلك بموقف واحد، يوم جهّز جيش العسرة - وضع تحت كلمة العسرة خطاً -، لا يستوي من أنفق ساعة العسرة مع من أنفق ساعة الرخاء واليسر!
عثمانُ عامِ الرمادة!
لكن يبدو أن هذه سياسة عثمان.. ففي زمن خلافة عمر رضي الله عنه، أصابت الناس سنة مجدبة أهلكت الزرع والضرع، حتى دعي عامها لشدة قحطه بعام الرمادة.
أقبل الناس على عمر رضي الله عنه ذات صباح، وقالوا: يا خليفة رسول الله، إن السماء لم تمطر، وإن الأرض لم تنبت، وقد أشفى الناس على الهلاك، فما نصنع؟! فنظر إليهم سيدنا عمر رضي الله عنه بوجه عصره الهم عصراً وقال: اصبروا واحتسبوا، فإني أرجو ألا تُمسوا حتى يفرج الله عنكم.
فلما كان آخر النهار؛ وردت الأخبار بأن عيراً لعثمان بن عفان رضي الله عنه جاءت من الشام، وأنها ستصل المدينة عند الصباح، فما أن قُضيت صلاة الفجر حتى هبّ الناس يستقبلون العير جماعةً إثر جماعة، وانطلق التجار يتلقونها؛ فإذا هي ألف بعير قد وسقت بُراً وزيتاً وزبيباً...
أناخت العير بباب عثمان رضي الله عنه، وطفق الغلمان يُنزلون عنها أحمالها، فدخل التجار على عثمان رضي الله عنه وقالوا: بعنا ما وصل إليك يا أبا عمرو، فقال: حباً وكرامةً، ولكن كم تربحونني على شرائي؟ فقالوا: نعطيك بالدرهم درهمين. فقال: أُعطِيت أكثر من هذا، فزادوا له. فقال: أُعطِيت أكثر مما زدتموه، فزادوا له. فقال: أُعطِيت أكثر من هذا. فقالوا: يا أبا عمرو، ليس في المدينة تجار غيرنا! وما سبقنا إليك أحد! فمن الذي أعطاك أكثر مما أعطيناك؟ فقال: إن الله أعطاني بكل درهم عشرةً، فهل عندكم زيادة؟ قالوا: لا يا أبا عمرو. فقال: إني أُشهِد الله تعالى أني جعلت ما حملت هذه العير صدقةً على فقراء المسلمين، لا أبتغي من أحد درهماً ولا ديناراً، وإنما أبتغي ثواب الله ورضاه.
ثم أخذ عثمان بن عفان يوزّع بضاعته، فما بقي من فقراء المدينة واحد إلاّ أخذ ما يكفيه ويكفي أهله. [فقه التاجر المسلم]
عثمان.. يصدّق الله ورسوله!
ومرة كان النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فأصاب الناس جهد، يقول أبو مسعود البدري صاحب النبي: حتى رأيتُ الكآبة في وجه المسلمين والفرح في وجوه المنافقين، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا تغيب الشمس حتى يأتيكم الله برزق»، فعَلِم عثمان أن الله ورسوله سيصدقان، فاشترى عثمان أربعين راحلة بما عليها من الطعام، فوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسعة منها، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما هذا؟» فقالوا: أهدى إليك عثمان، فعرف الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم والكآبة في وجوه المنافقين، ورأيت النبي صلى الله عليه وسلم قد رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه يدعو لعثمان دعاءً ما سمعته دعا لأحد قبله ولا بعده: «اللهم أعط عثمان، اللهم افعل بعثمان» [الطبراني بإسناد حسن].
عثمانُ بئرِ رومة!
ولعثمان غيرها وغيرها.. كموقفه يوم بئر رومة؛ حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فيها ماء يُستعذب إلا بئر رومة، ولم يكن يشرب منها أحد إلا بثمن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يشتريها ويجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟»، قال عثمان: فابتعتها من صلب مالي بكذا وكذا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: قد ابتعتها بكذا وكذا، قال: «اجعلها سقاية للمسلمين وأجرها لك»، فجعلها للغني والفقير وابن السبيل. [الترمذي، والنسائي].
أبو بكر.. يدُ خيرٍ لا تكافأ!
لم يكن هذا شأن عثمان وحده، فأتقى هذه الأمة بعد نبيها سيدنا أبو بكر، شهد الله له في القرآن بالتُّقى والغنى والرضى، فقال: ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾ [الليل: 14 - 21]
أبو بكر تصدّق على الرسالة في زمن عُسر، واشترى عبيداً وأعتقهم في وقتٍ صَعب كان الإسلام فيه يبني النواة البشرية الأولى، وفي آخر عُمر النبي صلى الله عليه وسلم نال أبو بكر أعظم شهادة نالها صحابيّ، قال: «ما لِأَحدٍ عندَنَا يَدٌ إلَّا وقَدْ كافأناهُ، ما خلَا أبا بكرٍ، فإِنَّ لَهُ عِندنَا يَدًا يُكافِئُهُ اللهُ بِها يَومَ القيامَةِ، ومَا نفَعَنِي مَالُ أحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعِني مالُ أبي بِكْرٍ، ولَوْ كنتُ متخِذًا خَلِيلًا، لاتخذْتُ أبا بكرٍ خلِيلًا، أَلَا وَإِنَّ صاحبَكُمْ خليلُ اللهِ» [الترمذي].
خديجةُ حِصار الشِّعب
خديجة بنت خويلد رضي الله عنها مثالٌ ثانٍ، واست النبي بمالها في حصار الشعب.. فقد حاصرَت قريشُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله من بني هاشم وبني المطلب بن عبد مناف في الشعب الذي يقال له: "شعب بني هاشم" بعد ستِّ سنين من مبعثه صلى الله عليه وسلم، فأقام ومعه جميع بني هاشم وبني المطلب في الشِّعب ثلاث سنين؛ حتى أنفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله كلَّه، وأنفق أبو طالب ماله، وأنفقت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها مالها.
قال بعض المفسرين: (يروى أنَّه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهو مغموم، فقالت: ما لك؟ فقال: الزَّمان زمان قحط، فإنْ أنا بذلتُ المال ينفد مالك، فأستحي منك، وإن أنا لم أبذل أخاف الله، فدعَت قريشاً وفيهم الصِّديق، قال الصِّديق: فأخرجَت دنانير حتى وضعَتها، وبلغت مباناً لم يقع بصري على من كان جالساً قدامي، ثم قالت: اشهدوا أن هذا المال ماله، إن شاء فرَّقه وإن شاء أمسَكَه) [تفسير الرازي]
وقد حفظ لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك المعروف، فكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا ذكَرَ خديجة أَثنى عليها فأحسَن الثَّناء. قالت عائشة: فغِرْتُ يوماً فقلت: ما أكثَر ما تذكرها! حمراء الشِّدْقِ، قد أبدَلَكَ الله عزَّ وجلَّ بها خيراً منها. قال: «ما أبدلني الله عز وجل خيراً منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدَّقتني إذ كذَّبني الناس، وواستني بِمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء» [أحمد].
قدوة أهل العطاء صلى الله عليه وسلم
كانت خديجة تعي أهمية المال في مسيرة الدعوة، هي نفسها استحضرت نُبل النبي في الجانب المالي يوم رأته يرتجف من الوحي، فقالت له: (كلَّا! أبشِرْ، فوالله لا يُخزيك الله أبداً، إنَّك لتَصِلُ الرَّحم، وتَصْدُق الحديث، وتحمِل الكَلَّ، وتَكسِب المعدوم، وتقْرِي الضَّيف، وتُعين على نوائب الحقِّ) [البخاري]، هنا ذكَرت مواقف النبيّ صلى الله عليه وسلم النبيلة في مساندة الناس عند الحاجة.
وهذه النماذج الراقية من الصحابة ما هي إلا أمثلة تخرّجت من مدرسة النبوة، فقد «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس... أجود بالخير من الريح المرسلة» [متفق عليه].
هو الممتنُّ على الأنصار يوم قال لهم: «يا معشَر الأنصار، ألم أَجِدكم عَالَةً فأغناكم الله بي؟» كلَّما قال شيئاً قالوا: (الله ورسولُه أَمَنُّ) [متفق عليه].
يوم وقع سلمان الفارسي في العبودية أمره النبي أن يشتري نفسه من سيده، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أَعِينُوا أَخَاكُمْ»، وأعانه النبي صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدَّجاجة من ذهب، فوفى الله بها عنه [أحمد].
جابر رضي الله عنه مرَّ بضائقة، أعيى جمله في الغزو وليس عنده مال يشتري غيرَه أحسن منه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أتبيع جملك؟». قال: نعم، فاشتراه منه بأوقية، ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قبله، فأدى له ثمنه أوقية من ذهب وزاده قيراطاً، ثم قال له: قال: «خذ جملك ولك ثمنه». [متفق عليه].
النتيجة العملية:
اليوم يوم بأس، هذا أوان تكافل ودعم، هذا زمان تلمع فيه معادن الرجال بمواقف الأبطال..
في ساعة العسرة درهم يسبق ألف درهم في غيرها..
غداً ستمضي الأيام ويزول الكرب، ومن أقبل وبادر غنم، ومن حاول أن يستدرك فيما بعد فإنه ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾ [الحديد: 10].
يا أهل اليُسر والنعمة، هذا السوق الذي رزقكم الله منه؛ اليوم يناديكم..
هذا الأوان لتدعموا من جعلهم الله لكم سبباً في الرزق زمناً طويلاً..
هذا الخير الذي امتنَّ الله به عليكم، اليوم يسألكم بعضَه لا كله، وما سألكم الله يوماً كلَّ أموالكم ﴿وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ [محمد: 36، 37].
فأنفقوا والله خيرُ ضامن؛ هو يتكفل بالتعويض ويتعهد بالردّ، ألا ترضى به كفيلاً؟ ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261].
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: 245]
فأدوا للمحتاج حقَّه في أموالكم، أنفقوا.. تصدقوا.. أقرضوا.. عجِّلوا زكاة اموالكم.. صِلوا رحمكم بأموالكم.. تفقدوا جيرانكم.. أكرموا عمّالكم وأجراءكم.. اسعوا على الأرملة والمسكين واليتيم.. أطعموا الطعام.. أعفّوا الفقير عن السؤال..
نعم، كلُّنا يعي أن الأيام القادمة ربما تحمل تحديات كبيرة.. لكن الامتناع بهذه الأعذار شأن الصغار، وكيد النفوس المجبولة على حب المال حباً جماً، أما الكبار فيعرفون واجبهم، وينفقون مما يحبون لا مما يفضل عنهم: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 92]
يعرفون مسؤوليتهم ويؤدون واجبهم اليوم قبل الغد، فقد لا يعيشون لغد يقولون فيه لورثتهم: تصدقوا، ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون: 10]. أو يقول: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ [المؤمنون: 99، 100]
قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الصدقة خير -أو أفضل-؟ قال: «أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا» [متفق عليه].
أغنياء المسلمين يعون أنهم مع أموالهم في امتحان «وفتنة أمتي المال» [الترمذي]، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال:28]، فيتعبدون الله تعالى بأموالهم كما يتعبدونه بمحاريبهم.. كما يتعبدونه بصلواتهم وصيامهم..
أذكر مرة أني جمعت أكثر من ثلاثين عبادة ماليَّة، لا يمكن أن يقوم بها إلا مؤمن غني، كزكاة المال، وكفالة اليتيم، وبناء المساجد، وتزويج الشباب... فهذا فضل الله عليكم، فالتمسوا الحَمد والمجد من أوسع أبوابه، كان سعد بن عبادة سيد الخزرج رضي الله عنه يقول: (اللهم ارزقني حمداً وارزقني مالاً، اللهم إنه لا حمد إلا بمجد، ولا مجد إلا بمال، ولا مال إلا بفعال، اللهم إنه لا يصلحني القليل ولا أصلح له، ولا يصلحني إلا الكثير ولا أصلح إلا عليه).
هذه أشهر مباركة، وقد ذهب أهل الدثور بالأجور، و«ذلك فَضلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَنْ يَشَاءُ» [متفق عليه]
هذه أزمة استثنائية لعلّنا لا نعيش بعدها، أو لا نعيش بعدها مثلها، فأروا الله من أنفسكم خيراً، ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾ [البقرة: 270]، ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سبأ: 39].
أروا نبيَّكم في أمته خيراً.. لعلكم تحشرون تحت لوائه مع عثمان بن عفان وأبي بكر وخديجة وعبد الرحمن بن عوف...
برهنوا لأنفسكم على صحة إيمانكم «والصدقة برهان» [مسلم] كما قال عليه الصلاة والسلام، برهان على الإيمان.. على الإخلاص.. على التخلص من طمع النفس وحبائل الشيطان..
كثروا حسناتكم بصدقتكم، وكفروا عن أخطائكم وذنوبكم، فإن «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار» [الترمذي].
و«صدقة السر تطفئ غضب الرب» [الطبراني]، «اتقوا النار ولو بشق تمرة» [متفق عليه].
شمّروا وتخطَّوا هذه العقبة: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ [البلد: 11 - 18].
يا أهل الخير.. حصّنوا أنفسكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، والتمسوا البركة بالإنفاق (فما نقص مال من صدقة).
إذا تعسرت أسواقكم، وتغيرت أرزاقكم، فالتمسوا التيسير بالصدقة، ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ [الليل: 5 - 7].
احجزوا أماكنكم تحت عرش الله بأموالكم، «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله... ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» [متفق عليه].
اللهم أعط منفقاً خلفاً..
اللهم أعط منفقاً خلفاً..
اللهم أعط منفقاً خلفاً..