بسم الله الرحمن الرحيم
 

قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18].

وأخرج الإمام أحمد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ، وَالدِّينِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ».

 

أيها الإخوة:

بينما كنت قافلاً من عملي، غارقاً ببعض الهموم التي يعاني مثلها كل منا في هذه الأيام.. لمحتُ شجرة في حديقة إحدى المنازل، قد اكتست ثوب الزهر المتألق الفتَّان، فعجبت لزهر الربيع كيف يخرج نضِراً، ويشرق من بين هذا الضَّجيج المفعم بالأكدار، ليخرج أبيضَ كنورِ الصَّباح الذي مسحته جبهة الشمس وبهجة الإشراق!

فنبَّهني ببهاء طلعته إلى نِعَم جسام نرتع في رياضها دون أن نراها، تحفّنا بأنامل الألطاف دون أن ندركها، ولو ذهبنا نعدّها لعجَزنا، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]

فأحببت أن أسلط الضوء في هذه الخطبة على بعض النِّعم التي منَّ الله تعالى بها على عدد كبير منَّا، تذكَّرها بعضنا، وغابت عن كثير آخرين.

 

عنوان هذه الخطبة:

(اذكروا نعمة الله)

 

بداية: ورد الأمر بتذكّر النعماء في القرآن الكريم مرات عديدة..

فأمر الله تعالى بذلك السابقين: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [البقرة: 47 / 122]

وأمر بذلك المرسلين: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ} [المائدة: 110]

وأمر بها المؤمنين: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } [الأحزاب: 9]

 

وقد احتوت هذه الآيات التي أمرنا الله تعالى فيها بتذكر نعمائه على نماذج من نعم الله تعالى على عباده المسلمين، أذكر لكم في هذه الخطبة خمساً منها تذكيراً بنعم الله علينا التي غيبتها هذه الظروف القاسية عن أذهاننا.. عسى أن تمسح على قلب جريح أو على صدر مصاب.

 

- النعمة الأولى: الإسلام.

 

يقول الله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231]. {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} [المائدة: 7]

جاء في تفسير ابن كثير: (يقول تعالى ذلك مذكراً عباده المؤمنين نعمته عليهم في شرعه لهم هذا الدين العظيم، وإرساله إليهم هذا الرسول الكريم، وما أخذ عليهم من العهد والميثاق في مبايعته على متابعته ومناصرته ومؤازرته، والقيام بدينه وإبلاغه عنه وقبوله منه).

 

تخيلوا -يا معاشر السادة- لو لم نكن مسلمين في هذه الظروف؟! لو لم نثق بوجود الله وعدله في الأرض ورحمته بعباده المسلمين وضمان العاقبة لهم وزيادة الأجر والدرجات في النوازل والبليات.!! لو لم تكن الآخرة هي النصف الثاني من المعادلة الذي يعدّل الأول!! لو لم نعرف سنن الله في أرضه ودستوره في خلقه.. !!

لو لم يكن ذلك لأصابتنا العقد النفسية والأمراض الجسدية أضعاف ما كان، ولانفجر القلب والدماغ مما يعاين في الأرض ويرى..!

 

فمن أمسى وأصبح مسلماً فليحمد الله على الثبات، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا».

 

قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: (معنى الحديث: الحثّ على المبادرة إلى الاعمال الصالحة قبل تعذُّرها والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة المتراكمة كتراكم ظلام الليل المظلم لا المقمِر، ووصَف صلى الله عليه وسلم نوعا من شدائد تلك الفتن وهو أنه يمسي مؤمناً ثم يصبح كافراً وهذا لعظم الفتن؛ ينقلب الإنسان فى اليوم الواحد هذا الانقلاب).

فالحمد لله على نعمة الإسلام، وكفى بها نعمة، والحمد لله على نعمة الثبات على الإسلام، وكفى بها نعمة.

 

- النعمة الثانية: التآلف والتعاون والتساعد والتعاضد:

 

يقول الله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]

نحن -يا معاشر السادة - وإن كنا في هذه الأزمة التي نعيش نعاني ضيقاً وألماً، ونرى شدَّة وكرباً، غير أننا نسمع ونرى بين الحين والآخر حوادثَ مشرِقة, ووقائع منيرة، تعجب من بذل أصحابها وسعة أفضالها، وكما ترى بذلاً من الواجد ترى سعياً من الفاقد، وعفة للمحتاج.

 

أخبرني أحد مدراء الجمعيات الخيرية أنه لدى زيارة إحدى الأسر المسجّلة في الجمعية تبين أنها مؤلفة من أم أرملة تربي بناتها الثلاث بعد وفاة والدهم، كانت أحوالهم المادية جيدة قبل الأزمة وكانوا يقطنون في أحد أحياء دمشق، والآن استأجرت منزلاً متواضعاً قريباً من الجمعية.

من الاحتياجات التي ظهرت عند الزيارة والاستعلام بعض الملابس المناسبة لخروج الفتيات للمدرسة، فالبنات الثلاث في مرحلة الدراسة الثانوية، وهنّ حافظات لكتاب الله تعالى.

طلب مندوب الجمعية منهم شراء  الملابس المناسبة وتعهَّد بثمنها, وبعد أيام تبين أنها اختارت أرخص نوع من هذه الملابس تعففاً، وإيثاراً لأسر أخرى هي أحوج للنفقات من هذه الأسرة.

هذه السيدة تستضيف عندها أسرة متضررة أخرى مؤلَّفة من أم مع ثلاثة أطفال صغار.

عفواً... نسيت أن أخبركم بأن المنزل التي تسكنه هذه الأسرة مؤلف من غرفة واحدة فقط!

 

- النعمة الثالثة: الإيواء.

 

يقول الله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ} [الأنفال: 26]

وأخرج الترمذي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوتُ يومه، فكأنما حيزت له الدنيا».

فمن بات ليلته هذه تحت سقف فليحمد الله، فإن له إخواناً باتوا في العراء، وعافاه الله تعالى مما ابتلى به غيره.

 

يقيناً -يا معاشر السادة- لن تجد إنساناً يعيش أمناً مثالياً، وعافية مثالية، وأحوالاً مالية مثالية في هذه الظروف، لكن فضل الله لا بد مدركنا، وقد خص الله تعالى معظمنا بكرم كبير، وعافاه من بلاء عسير، وانظروا حولكم ترون فضل ربكم يحفكم، فإن من علامات السعادة أن تنظر إلى من دونك في الدنيا، وإلى من فوقك في الدين.

 

- وفي هذا الحديث المتقدم نعمة رابعة هي العافية:

 

«معافى في جسده»، فمن أصبح منكم متمتعاً بسلامة أعضائه وكمال خلقته فليحمد الله، فإن لكم إخواناً فقدوا أضلاعهم وحواسهم وجوارحهم، وفضَّلكم الله تعالى عليهم. ومن بات بين أولاده وأهله فليحمد الله، فإن له أخاً ما ذاق النوم يبكي زوجة أو ولداً أو رحماً..

يحكى أن عبداً ابتلاه الله بالعمى وقطع اليدين والرجلين، فمر به رجل فوجده يشكر الله على نعمه، ويقول: الحمد الله الذي عافاني مما ابتلى به غيري، وفضَّلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، فتعجب الرجل من قول هذا الأعمى مقطوع اليدين والرجلين، وسأله: على أي شيء تحمد الله وتشكره؟ فقال له: يا هذا، أَشْكُرُ الله أن وهبني لسانًا ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا، وبدنًا على البلاء صابرًا.

 

- النعمة الخامسة: الرزق: «عنده قوتُ يومه».

 

ويقول الله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ.. فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26]

 

يا معاشر السادة: من كان يظن أن تمضي ثلاث سنوات على الأزمة ولا تزال الخضرة تملأ أسواقنا، ومحلاتنا مفتوحة نتلمس الرزق منها، ومدارسنا تتّقد، ومطاعمنا تكتظ؟!

نعم، كثير هم الفاقدون لهذه النعمة اليوم، فمن أمسى منكم شبعان فليحمد الله، وليتذكر أن الله فضله على كثير ممَّن خلق تفضيلاً، ومن بات كالاً من عمل يده فليحمد الله، فإن كثيراً من الناس يشتهون ما أنت فيه من نعمة العمل، ومن يشكو استيقاظه باكراً لتوصيل أولاده إلى مدارسهم فليحمد الله، وليتذكر أن كثيراً من الأطفال اليوم باتوا يبكون شوقاً إلى مدارسهم ومعلميهم وأصحابهم.

 

ختاماً: النتيجة العملية لهذه الخطبة:

 

  1. لا تشكو الله للناس، وأنصف ربك من نفسك، فلا تعد بلاياه وتكفر عطاياه، واشكره على ما امتن له عليك.
  2. ابحث حولك عمن فضلك الله عليه في النعم، وأحسن إليه، وأعنه، ومد له يدك، {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]
  3. ثق بربك، وتأكد أن البلايا ليست شراً كلُّها، بل ربما كان فيها خير كبير.

 

وقال الله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون} [البقرة: 216] وقال سبحانه: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]

 

للحديث بقية، لعلنا نتابعها في خطبة أخرى.

والحمد لله رب العالمين