بسم الله الرحمن الرحيم

 

يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]

جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ». قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قَاتِلْهُ»، قال أرأيت إن قتلني؟ قال: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ»، قال: أرأيت إن قتلتُه؟ قال: «هُوَ فِي النَّارِ» [أخرجه مسلم].

فمن عِزَّة المسلم ألَّا يكون مستباحاً لكلِّ طامع، أو غرضاً لكلِّ هاجم، بل عليه أن يدفع عن نفسه وعِرضه وماله وأهله.

وإنَّما شَرَع الله العقوبة للظَّالم إعزازاً لجانب المهضوم، وإيهاناً لجانب العادي، فعلَّق المسلم بحقوقه وملأ بها يديه، وأغراه أن يتشبَّث بها فلا يَنزل عنها إلَّا عفواً كريماً، أو سماحة تزيده عزَّاً على عزٍّ.

 

عنوان خطبة اليوم:

(الكرامة الإنسانية ج1)

 

الكرامة والعزة والإباء.. من أبرز الخلال التي نادى بها الإسلام، وغرسَها في أنحاء المجتمع، وتعهد نماءها بما شرع من عقائد وسنَّ من تعاليم، وإليها يشير عمر رضي الله عنه بقوله: (أُحِبُّ من الرَّجل إذا سيم خطة خَسْف أن يقول بملء فيه: "لا")، أي: إذا أُلزِم أن يُذَلّ أو يهون أن يقول: لا.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ جاءه رجل من أهل مصر، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا مقام العائذ بك، قال: وما لك؟ قال: أجرى عمرو بن العاص بمصر الخيل فأقبَلَت، فلما تراءاها الناس، قام محمّد بن عمرو فقال: فرسي ورب الكعبة، فلما دنا منه عرفته، فقلت: فرسي ورب الكعبة، فقام إليّ يضربني بالسوط، ويقول: خذها وأنا ابن الأكرمين.

قال: فوالله ما زاده عمر أن قال له: اجلس، ثم كتب إلى عمرو: (إذا جاءك كتابي هذا فأقبِل، وأقبل معك بابنك محمّد).

قال: فدعا عمرو ابنه فقال: أحدثتَ حدثاً؟ أجَنَيت جناية؟ قال: لا، قال: فما بال عمر يكتب فيك؟!

 

قال: فقدِم على عمر رضي الله عنه، قال أنس: فوالله إنا عند عمر حتى إذا نحن بعمرو، وقد أقبل في إزار ورداء، فجعل عمر يلتفت هل يرى ابنه؟ فإذا هو خلف أبيه، قال: أين المصري؟ قال: ها أنا ذا، قال: دونك الدّرة! فاضرب ابن الأكرمين، اضرب ابن الأكرمين!!

قال: فضربه حتى أثخَنه، ثم قال: أحِلْهَا على صلعة عمرو، فوالله ما ضَرَبَك إلا بفضل سلطانه، فقال: يا أمير المؤمنين، قد ضربتُ مُن ضَربني، قال: أما والله لو ضربتَه ما حُلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه، يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!

ثم التفت إلى المصري فقال: انصرف راشداً، فإن رابَك ريب فاكتب إليّ([1]).

 

ولمثل هذا المقياس أمر عمر رضي الله عنه بالقصاص لأعرابي من جَبَلَة بن الأيهم الأمير الغسَّاني، كما قضى بالقصاص لذمّيٍّ من ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه.

لما أسلم جبلة بن الأيهم في أيام عمر رضي الله عنه كتب إليه يخبره بإسلامه ويستأذنه في القدوم عليه، فسرَّ عمر رضي الله عنه بذلك، وأذِن له، فخرج في خمسين ومائتين من أهل بيته، حتى إذا قارب المدينة عمد إلى أصحابه فحمَلهم على الخيل، وقلَّدها بقلائد الذهب والفضة، وألبسها الديباج وسرف الحرير، ووضع تاجه على رأسه، فلم تبقَ بِكر ولا عانس إلا خرجَت تنظر إليه وإلى زيِّه وزينته.

 

فلما دخل على عمر رضي الله تعالى عنه رحب به وأدنى مجلسه، وأقام بالمدينة مكرماً، فخرج عمر رضي الله تعالى عنه حاجاً فخرج معه، وحين تطوَّف بالبيت وطىء رجلٌ من فزارة إزاره، فانحلَّ، فلطمَ جبلةُ الرجلَ الفزاريَّ لطمةً هشم بها أنفَه وكسر ثناياه، فشكا الفزاري ذلك إلى عمر رضي الله تعالى عنه، فاستدعاه وقال له: لِمَ هشمت أنفه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، تعمَّد حلَّ إزاري، ولولا حرمة البيت، لضربتُ عنقَه بالسيف!

فقال له عمر: أما أنت فقد أقررت، إما أن ترضيه وإلا أقدتُه منك!

فقال جَبلة: فتصنع بي ماذا؟

قال: مثل ما صنعتَ به!

فقال جَبلة: أتقتص له مني سواء وأنا ملك وهذا سوقي؟

فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: الإسلام سوَّى بينكما، ولا فضل لك عليه إلا بالتقوى.

فقال: إن كنت أنا وهذا الرجل سواء في الدين فأنا أتنصَّر، فإني كنتُ أظن يا أمير المؤمنين أني أكون في الإسلام أعزَّ مني في الجاهلية!

فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: إذا أضربُ عنقَك.

فقال: فأمهلني الليلة حتى أنظر في أمري.

قال: ذلك إلى خصمك.

فقال الرجل: أمهلتُه يا أمير المؤمنين.

فأذن له عمر رضي الله تعالى عنه في الانصراف، ثم ركب في بني عمِّه وهرب إلى القسطنطينية، فدخل على هرقل وتنصَّر هناك، ومات على ذلك. وقيل عاد إلى الإسلام ومات مسلماً([2]).

 

هكذا حكم عمر ابن الخطاب كريم النفس عزيزها، فضمن لمن تحت حكمه هذه الكرامة وهذه العزة، وكان كسيف أجرد في وجه كل من يروم كرامة الإنسان بشيء!

 

أما اليوم فكثيراً ما نسمع الناس يقولون: كل شيء غلا إلا الإنسان - الإنسان أرخص شي- بني آدم ما يسوى شيء-...، هذه العبارات التي تنم عن اهتزاز داخلي، وتمرُّس على تجرُّع المرارة والهوان، وتعوُّد على الظلم والبطش ممن يحكمهم، يعيشون الذل والله يقول لهم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}.

 

واسمعوا معي إلى هذا الجبل الأشمّ، يقف كأسد يزأر في وجه الظالم العادي، يأبى أن يموت إلا كريماً كما عاش..!

 

جاء في خبر وفاة التابعي الجليل سعيد بن جُبير -رحمه الله- الذي ترجم له الحافظ المزي في كتابه "تهذيب الكمال" قال:

لما أُدخل سعيد بن جُبير -رحمه الله- على الحجاج قال له: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير، قال: أنت شقي بن كسير، فقال سعيد: بل أمي كانت أعلم باسمي منك!!

قال: شقيتَ أنتَ وشقيَت أمُّك، فقال سعيد: الغيب يَعلَمه غيرك!

قال: لأبدلنَّك بالدنيا ناراً تلظَّى! قال: لو علمتُ أن ذلك بيدك لا تخذتك إلهاً.

قال الحجاج: فما قولك في محمد؟ فقال سعيد: نبي الرحمة إمام الهدى.

قال: فما قولك في علي؛ في الجنة هو أم في النار؟ فقال سعيد: لو دخلتُها فرأيت أهلها عرفتُ من فيها!

قال: فما قولك في الخلفاء؟ فقال سعيد: لست عليهم بوكيل!

قال: فأيهم أعجب إليك؟ فقال: أرضاهم لخالقي!

قال: فأيهم أرضى للخالق؟ فقال: عِلْم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم.

قال الحجاج: أبيتَ أن تصدقني؟ فقال سعيد: إني لم أحب أن أكذِّبك.

فقال الحجاج: ويلك يا سعيد، فقال سعيد: الويل لمن زُحزِح عن الجنة وأدخِل النار!

قال الحجاج: اختر يا سعيد أي قتلة تريد أن أقتلك؟! فقال سعيد: اختر لنفسك يا حجاج، فوالله ما تقتلني قتلة إلا قتلتُك مثلَها في الآخرة!

قال: فتريد أن أعفو عنك؟ قال: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر.

قال الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه، فلما خرج من الباب ضحك، فأُخبر الحجاج بذلك فأمَرَ بردّه، فقال: ما أضحكك؟ قال: عجبتُ من جرأتك على الله وحِلم الله عنك!

فأمر الحجاج بالنطع فبُسط، فقال: اقتلوه، فقال سعيد: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79].

قال الحجاج: شدوا به لغير القبلة، قال سعيد: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115].

قال الحجاج: كبُّوه لوجهه، قال سعيد: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55].

قال الحجاج: اذبحوه.. فقال سعيد: أما إني أشهَد وأحاج أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، خذها مني حتى تلقاني يوم القيامة، ثم دعا سعيد ربَّه فقال: (اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي)، فذُبح على النَّطع رحمة الله عليه.

وعاش الحجاج بعده مدة قصيرة ووقعت الأكلة في بطنه، فدعا بالطبيب لينظر إليه فنظر إليه، ثم دعا بلحم منتن فعلّقه في خيط ثم أرسله في حلق الحجاج فتركه ساعة ثم استخرجه، فعلق به الدم والدود، فعلم أنه ليس بناج، وكان الحجاج ينادي: بقية حياته: ما لي ولسعيد بن جبير؟! كلما أردتُ النوم أخذ برجلي!!

 

المحور الثاني في هذه الخطبة: ما سبب قبول الذُّل؟

 

لماذا نرى اليوم بعض الناس استمرأ الذل، تعوَّد الإهانة، لا يعرض له موقف حتى يطأطئ رأسه ويلتمس العفو، ولو كان الظالم موظفاً أقصى ما يستطيع فعله أن يعرقل له معاملته!!

 

يقول الشَّيخ الأديب الدَّاعية محمَّد الغزالي في كتابه "خُلُق المسلم" مبيناً أسباب النَّاس في إذلال أنفسهم:

(إنَّ النَّاس يُذِلُّون أنفسهم ويَقبلون الدَّنيَّة في دينهم ودنياهم لواحد من أمرين: إمَّا أن يُصابوا في أرزاقهم، أو في آجالهم.

والغريب أنَّ الله قطع سلطان البشر على الأمرين جميعاً -الآجال والأرزاق-، فليس لأحد إليهما من سبيل.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرِّزْقَ يَطْلُبُ الْعَبْدَ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ»([3]).

 

وروي في شأن الأجَل والرِّزق: «إِنَّ رُوْحَ القُدْسِ نَفَثَ فِي رُوْعِيَ: أَنَّ نَفْسَاً لَنْ تَمُوْتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا»([4]).

 

وقال الله تعالى في شأن الرِّزق: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذَّاريات:22-23].

 

وقال في شأن الآجال: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].

 

من هنا يظهر أنَّ النَّاس في الحقيقة يستذلُّهم وهمٌ نشأ في أنفس مريضة بالحرص على الحياة والخوف على القوت؟

وبَذْلُ ماء الوجه طلباً للمال شَينٌ، وتهيُّب الموت وتحمُّل العار طلباً للبقاء في الدُّنيا على أيَّة صورة حُمقٌ، والنَّاس من خوف الذُّل في ذُلّ، ومن خوف الفقر في فقر).

 

ثم قال: (إنَّ القضاء يصيب العزيز والذَّليل، يصيب العزيز وله أجرُه، ويصيب الذَّليل وعليه وزرُه، فكُن عزيزاً ما دام لن يَلتَفِت من محتوم القضاء إنسان).

 

نعم، فالله تعالى يقول: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]

ونقل سبط ابن الجوزي من خط الشيخ موفَّق رحمه الله تعالى:

لا تجلسنَّ ببابِ من

 

يأبى عليك وصولَ داره

وتقول حاجاتي إليـْـ

 

ـهِ يعوقها إن لم أداره

واتركه واقصد ربها

 

تُقضَى وربُّ الدار كاره

 

 

يقول الدُّكتور وهبة الزُّحيلي في كتابه "الخصائص الكبرى لحقوق الإنسان في الإسلام": (يتطلب حقُّ الحياة حماية الكرامة الإنسانية؛ لأنَّ الكرامة تمثل عزة النَّفس والإحساس المعنوي بالحياة بعد الإحساس المادي بالوجود دون تمييز بين أمير وسوقة، ولا بين حاكم ومحكوم؛ لذا أمر عمر رضي الله عنه بالقصاص لأعرابي من جَبَلَة بن الأيهم الأمير الغسَّاني، وبالقصاص لذمّيٍّ من ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه.

 

وليقارن كلُّ إنسان هذا مع حضارة القرن العشرين، وما فيها من تعذيب وتشويه وتمثيل كالقرون البدائية، ويتمثل ذلك في معسكرات الاعتقال، وويلات السُّجون، وفظائع التَّنكيل في البلاد المختلفة).

 

ختاماً: إذا أُهدِرَت كرامة الإنسان ودِيست عزّته وأُذِلّت نفسه فهو لا يملك إلا أن ينفجر في وجه من سلبه أساس حقوقه الإنسانية...، هذا ما اقتضاه تكريمَ الله تعالى له: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]

هذا حديث سريع عن الكرامة وضرورتها.. ونتحدث في خطبة قادمة إن شاء الله عن أسباب ضمانتها.

 

والحمد لله رب العالمين

 

([1]) محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (2/ 473)

([2]) السيرة الحلبية [3/ 358].

([3]) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" [2/411].

([4]) أخرجه أبو نُعيم في "حلية الأولياء" [12/20]، والطبراني في"المعجم الكبير" [8/166].