في زمن مضى.. كانت أخبار المسافر تغيب معه حتى يأتي من محلته وافد، يطمئن الأهل والأحباب عن حال غائبهم، ثم تطور الأمر باتصالات نصف آلية، ثم آلية، لكن ذلك كان مكلفاً، مما جعل التواصل مع الآخرين مقدوراً بقدر الضرورة، ومحدوداً بحد الحاجة.
وقد كان بعض أجدادنا يكتب فوق ذلك الهاتف: (يا قاضي الحاجات) كتذكير لمستخدم هذه الآلة بأن الغرض منها هو قضاء الحاجة لا غير.
تطور الأمر واتسعت الخيارات، لتصلك دعوات أخيك (online) باتصال الفيديو وهو يطوف، هو يدعو وأنت تؤمِّن، أو أنت تدعو وهو يؤمّن..
مع هذه الفسحة التقنية والكلفة شبه المجانيَّة صار نصف اتصالاتنا عبارات مكررة: كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ ما أخباركم؟ هل من جديد؟ بماذا تخبرونا؟ والإجابة مكررة كذلك: الحمد لله، نحمد الله، على حالنا، لا جديد، بخير والحمد لله...
صارت برامج الاتصال اليوم تتنافس بالميزات والتحديثات والخدمات المجانية، صار الـ whatsapp و Viber و Messenger و Line و imo وغيرها الكثير يتزاحم على الشاشة الرئيسية لجوالاتنا، ولو كان جدي حياً لجعل صورة الخلفية في جهازه: (يا قاضي الأوقات!)
(قد يهمك: الذوق والجهاز المحمول)
عن ذوقيات التعامل مع هذه البرامح نتحدث في هذا المقال في نقاط عشرة، هي:
أولاً- وسِّع خياراتك:
فإن اتصلت بأحدهم ولم يستجب لندائك ولم يستقبل مكالمتك فلا تبادر لسوء الظن به، وتلومه أو تتحدث عنه أنه أغلق في وجهك أو تجاهل اتصالك، فالله أعلم بأحوال الناس، وكلما ارتقى ذوق الإنسان أكثرَ؛ زادَ من إعذار مَن حوله، أما ضَيِّقُ الأفُق فعنده احتمال واحد لا غير: أنه اتصل به فتجاهله عمداً!
ومثل ذلك إن أرسلتَ له رسالة، وظهر عندك أنه رآها ولم يجبك، فلعله لم يرها هو، وإنما أحَد أولاده أو إخوته، ولعله رآها ولكنه في انشغال يمنعه أن يرد، فأجَّلَ الردّ، فلا تضَع خياراً واحداً ثم تغوص في نقده والاستياء منه.
ثانياً- خذ نفَساً عميقاً:
قبل الإلحاح.. عليك بنفَس عميق يرافق التحدُّث عن طريق وسائل التواصل، فمن غير المقبول أن ترسل عدداً من الرسائل المتتالية: (ألو، مرحباً، أين أنت، لماذا لا تردّ، ألو، ألو...)، كل هذه الرسائل تتوالى تباعاً قبل أن تنتهي 60 ثانية، في حين أنَّ الذي تتصل به غارق في أمر ما (خارج التغطية معنوياً)، غير منتبه أصلاً لاتصالك! إن هذا الإلحاح مزعج جداً.
ثالثاً- قدِّر وقت الآخر:
لا أعلم لماذا يحمل بعض المتعاملين مع هذه البرامج همَّ ملء أوقات الآخرين! لا أعلم لماذا يرى أن مسؤوليته اليومية تنحصر في إغراقهم برسائله الطويلة والمتكرِّرة، والتي تستغرق قراءتها وقتاً طويلاً، وغالباً ما تكون ذات معنى غير مترابط، فتضيع الفائدة منها.
طبعاً هذا ليس كل شيء، فهو يجنِّد جمهوره المسكين للمهمة نفسها، فيهدده دينياً، ويُطمِعه دنيوياً، ويَعِدُه صحياً، ويتوعَّده مستقبليَّاً... إن لم يرسل رسالته هذه لخمسة وعشرين مسكيناً آخرين، تحمل التهديد نفسه، والوعيد نفسه، وطبعاً (الشيطان لا يمنعه) أن يفعل الفعلة نفسها مع من ابتلاهم القدَر بوجودهم في جهات الاتصال الخاصة به
لا تأبه بمن يرسل لك رسالة ويطلب إليك إرسالها لعشرة، وأن إرسالها سيسمعك خبراً جيداً، وإلا فالشيطان هو من منعك...، تجاهل هذه الرسالة بكل ثقة، واطلب ممن أرسلها أن لا يعيد إرسال مثل هذه الرسائل.
رابعاً- كن اقتصادياً:
من الأخطاء إدمان إرسال الفيديوهات عبر اتصالات الإنترنت، فلعل المرسل أرسلها من شبكة Wi-Fi، لكن المستقبل يتكبد خسارة تنزيلها على 3G!
ولا ينتهي الأمر عند الإرسال، بل يتلوه اتصال يتابع حركة المرور لهذا الفيديو الحافل: (ما رأيك بالفيديو؟ هل رأيته؟ عندي أجمل منه.. سأرسله وأعاود الاتصال.. تابعه وأخبرني!).
خامساً- كن أخلاقياً:
احذر ألف مرة من تمرير فيديو غير أخلاقي من جوالك إلى جوال أحد غيرك، فهذا سيئة جارية، وكل من ينظر إليه بعد إرسالك له فلك من الإثم مثله، ولعل الإنسان يموت.. وتبقى الصور التي أرسلها والفيديوها والنكات الرذيلة والرسومات الفاضحة الفاحشة... تدور بين أرقام الهواتف، ورصيده من السيئات يتنامى... فإن ضعفت أمام الخطأ فلا تكن داعية إليه، ولا تحمل إثم غيرك في إيصاله إليه.
(مقال: الذوق والجدار الآزرق facebook)
سادساً- استأذن قبل اتصال الفيديو:
وليس من الأدب الاتصال بأحدهم باستعمال الكاميرا من غير استئذان مسبق، فلعل بعض الناس لا ينتبه بأن الاتصال هو اتصال فيديو، ويكون على هيئة أو في وضع لا يحب أن يراه فيه أحد، لكنه يرد ليتفاجأ بالآخر قد ظهر على شاشته ورآه في غير ما يحب، لا بد من الاتصال أو إرسال رسالة يطلب من خلالها الإذن بالاتصال عن طريق الفيديو.
سابعاً- خصص وقتاً للتواصل:
أوصي بناتنا وأخواتنا بالانتباه لوسائل التواصل، وتخصيص وقت لها، وعدم إطلاق العنان لتشغلهن عن التربية أو العمل أو الدراسة أو التواصل مع أفراد العائلة، فهذا يتجاوز عتبة الذوق ليمس الواجبات والضرورات الحياتية، ويتبعها -ضرورةً- ثغرات ذوقية.
ثامناً- كن واعياً:
أتاحت وسائل التواصل للأغراب التسلل إلى قلوب الفتيات، وفي عدد من العواصم العربية ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في رفع حالات الطلاق، كسوريا والإمارات ولبنان والسعودية والأردن وغيرها... فلا بدَّ مع استعمال هذه الوسائل من وعي!
وليست النصيحة مقتصرة على الفتيات، بل تشمل الشباب أيضاً، فبعض الفتيات اللواتي يفتقرن إلى الدين والتربية والأدب تعكف على إرسال رسائل تستجدي من خلالها المحبين والمعجبين والممارسين للرذيلة معها، فليحذر الشاب من الوقوع في هذا الوحل، وليضبط فضوله، وليستغنِ عن اختبار قوَّة حدسه، فليس الدخول في مثل هذا الأمر كالخروج منه!
قد لا يقتصر الأمر على الرذيلة، وإنما على الخداع والكذب، كالادعاء بأن صاحب الرقم عليه سحر، مع استعمال صور استخدمها على هذه البرامج -وما أسهل اختراقها فيما يبدو-، وعلى أساس ذلك يتم استجراره إلى ما يضره ويكلفه.
تاسعاً- قدِّر الفروقات:
ثق بأننا لا ننظر جميعاً إلى برامج التواصل بالطريقة نفسها، ولا نتعامل معها بالأولوية ذاتها، فلعل أحدهم يعتمد على طريقة جدِّي القديمة (يا قاضي الحاجات)، وغيره يعتمد على الطريقة الحديثة (يا قاضي الأوقات) وثالث يعتمد على طريقة مختلفة عنها (يا قاضي على الميغايات!)...
لا تعتب على إنسان ترسل له رسائلك المكرورة ولا يردّ، ولا يُثني، ولا يتفاعل...، لا تلزم الجميع أن يتعامل معك بالطريقة نفسها والفهم نفسه!
ثم من قال إننا نعطي تلك البرامج الأهمية أو الأولوية نفسها، فبعضنا يهتم لبرنامج whatsapp ولا يعير اهتماماً لما يرده على الـ Viber ، وكذلك يعكف آخر على الـ Messenger ولا يعرف آلية عمل برنامج Line... وهكذا الأمر، فلا تطالب الجميع بالتفاعل معك، والاهتمام لما تهتم به، والتفرغ لهذه التحَف الثمينة التي تغدقها عليهم كلَّ حين.
عاشراً- لا تُضِيِّع البوصلة:
تذكر أن الغاية من هذه الوسائل هو تعزيز التواصل الاجتماعي، وليس التقاطع والتدابر واصطياد الأخطاء، فدعك يا رجل من متابعة تلك الرسائل التي تستجدي بها روح الحياة لعلاقاتك مع الاخرين، أرسل وانسَ، من ردَّ فأهلاً، ومن لم يردّ فليست هذه البرامج ميزاناً لتقييم محبَّته واهتمامه.
هذه عشر ذوقيات رأيتها مهمة في التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي، مرحِّباً بإضافاتكم التي تثري المقال وتغنيه.